الصفحة الرئيسية
>
شجرة التصنيفات
كتاب: التحرير والتنوير المسمى بـ «تحرير المعنى السديد وتنوير العقل الجديد من تفسير الكتاب المجيد»***
{لَقَدْ صَدَقَ اللَّهُ رَسُولَهُ الرُّؤْيَا بِالْحَقِّ لَتَدْخُلُنَّ الْمَسْجِدَ الْحَرَامَ إِنْ شَاءَ اللَّهُ آَمِنِينَ مُحَلِّقِينَ رُءُوسَكُمْ وَمُقَصِّرِينَ لَا تَخَافُونَ فَعَلِمَ مَا لَمْ تَعْلَمُوا فَجَعَلَ مِنْ دُونِ ذَلِكَ فَتْحًا قَرِيبًا (27)} استئناف بياني ناشئ عن قوله: {فأنزل اللَّه سكينته على رسوله وعلى المؤمنين} [الفتح: 26] ودحض ما خامر نفوس فريق من الفشل أو الشك أو التحير وتبيين ما أنعم الله به على أهل بيعة الرضوان من ثواب الدنيا والآخرة إلى كشف شبهة عرضت للقوم في رؤيا رآها رسول الله صلى الله عليه وسلم ذلك أن رسول الله صلى الله عليه وسلم رأى رؤيا قبل خروجه إلى الحديبية، أو وهو في الحديبية: كأنه وأصحابه قد دخلوا مكة آمنين وحَلَقوا وقصَّروا. هكذا كانت الرؤيا مُجملة ليس فيها وقوع حجّ ولا عمرة، والحلاق والتقصير مناسب لكليهما. وقصَّ رسول الله صلى الله عليه وسلم رؤياه على أصحابه فاستبشروا بها وعبَّروها أنهم داخلون إلى مكة بعمرتهم التي خرجوا لأجلها، فلما جرى الصلح وتأهب الناس إلى القفول أثار بعض المنافقين ذكر الرؤيا فقالوا: فأين الرؤيا فوالله ما دخلنا المسجد الحرام ولا حلقنا وقصرنا؟ فقال لهم أبو بكر رضي الله عنه: إن المنام لم يكن موقتا بوقت وأنه سيدخل وأنزل الله تعالى هذه الآية. والمعنى أن رؤيا رسول الله صلى الله عليه وسلم حق وأن الله أوحى إليه بها وأنها وإن لم تقع في تلك القضية فستحقق بعد ذلك وكأنَّ الحكمة في إراءة الله رسوله صلى الله عليه وسلم لك الرؤيا أيامئذٍ وفي إخبار الرسول صلى الله عليه وسلم أصحابه بها: أن الله أدخل بذلك على قلوبهم الثقة بقوتهم وتربية الجراءة على المشركين في ديارهم فتسلم قلوبهم من ماء الجبن فإن الأمراض النفسية إذا اعترت النفوس لا تلبث أن تترك فيها بقايا الداء زماناً كما تبقى آثار المرض في العضو المريض بعد النقاهة زماناً حتى ترجع إلى العضو قوته الأولى بعد مدة مناسبة. وتوكيد الخبر بحرف (قد) لإبطال شبهة المنافقين الذين قالوا: فأين الرؤيا؟ ومعنى {صدق اللَّه رسوله الرؤيا} أنه أراه رؤيا صادقة لأن رؤيا الأنبياء وحي فآلت إلى معنى الخبر فوصفت بالصدق لذلك. وهذا تطْمين لهم بأن ذلك سيكون لا محالة وهو في حين نزول الآية لمَّا يحصل بقرينة قوله: {إن شاء اللَّه}. وتعدية {صدق} إلى منصوب ثان بعد مفعوله من النصب على نزع الخافض المسمّى بالحذف والإيصال، أي حذف الجار وإيصال الفعل إلى المجرور بالعمل فيه النصب. وأصل الكلام: صدق الله رسوله في الرؤيا كقوله تعالى: {صدقوا ما عاهدوا الله عليه} [الأحزاب: 23]. والباء في {بالحق} للملابسة وهو ظرف مستقر وقع صفة لمصدر محذوف، أي صدقاً ملابسا الحق، أو وقوع حالا صفة لمصدر محذوف، أي صدقا ملابساً وقع حالاً من الرؤيا. والحق: الغرض الصحيح والحكمة، أي كانت رؤيا صادقة وكانت مَجْعُولة محكمة وهي ما قدمناه آنفاً. وجملة {لتدخلن المسجد الحرام} إلى آخرها يجوز أن يكون بياناً لجملة {صدق اللَّه} لأن معنى {لتدخلن} تحقيق دخول المسجد الحرام في المستقبل فيعلم منه أن الرؤيا إخبار بدخول لم يعين زمنه فهي صادقة فيما يتحقق في المستقبل. وهذا تنبيه للذين لم يتفطنوا لذلك فجزموا بأن رؤيا دخول المسجد تقتضي دخولهم إليه أيامئذٍ وما ذلك بمفهوم من الرؤيا وكان حقهم أن يعلموا أنها وعد لم يعين إبان موعوده وقد فهم ذلك أبو بكر إذ قال لهم: إن المنام لم يكن موقتاً بوقت وأنه سيدخل. وقد جاء في سورة يوسف (100) {وقال يا أبت هذا تأويل رؤياي من قبل} وليست هذه الجملة بياناً للرؤيا لأن صيغة القسم لا تلائم ذلك. والأحسن أن تكون جملة لتدخلن المسجد الحرام} استئنافاً بيانياً عن جملة {صدق اللَّه رسوله} أي سيكون ذلك في المستقبل لا محالة فينبغي الوقف عند قوله: {بالحق} ليظهر معنى الاستئناف. وقوله: {إن شاء اللَّه} من شأنه أن يذيل به الخبر المستقبل إذا كان حصوله متراخياً، ألا ترى أن الذي يقال له: افعل كذا، فيقول: أفعل إن شاء الله، لا يفهم من كلامه أنه يفعل في الحال أو في المستقبل القريب بل يفعله بعد زمن ولكن مع تحقيق أنه يفعله. ولذلك تأولوا قوله تعالى في سورة يوسف (99) {وقال ادخلوا مصر إن شاء الله آمنين أنّ إن شاء اللَّه} للدخول مع تقدير الأمن لأنه قال ذلك حين قد دخلوا مصر. أما ما في هذه الآية فهو من كلام الله فلا يناسبه هذا المحمل. وليس المقصود منه التنصل من التزام الوعد، وهذا من استعمالات كلمة {إن شاء اللَّه}. فليس هو مثل استعمالها في اليمين فإنها حينئذٍ للثُّنْيا لأنها في موضع قولهم: إلا أن يشاء الله، لأن معنى: إلا أن يشاء الله: عدم الفعل، وأما إن شاء الله، التي تقع موقع: إلا أن يشاء الله، فمعناه إن شاء الله الفعلَ. والموعود به صادق بدخولهم مكة بالعمرة سنة سبع وهي عمرة القضية، فإنهم دخلوا المسجد الحرام آمنين وحَلق بعضهم وقصّر بعض غير خائفين إذ كان بينهم وبين المشركين عهد، وذلك أقرب دخول بعد هذا الوعد، وصادق بدخولهم المسجد الحرام عام حجة الوداع، وعدمُ الخوف فيه أظهر. وأما دخولهم مكة يوم الفتح فلم يكونوا فيه محرمين. قال مالك في «الموطأ» بعد أن ساق حديث قتل ابن خطل يومَ الفتح (ولم يكن رسول الله صلى الله عليه وسلم يومئذٍ محرماً والله أعلم). و {محلقين رؤوسكم} حال من ضمير {آمنين} وعطف عليه {ومقصرين} والتحليق والتقصير كناية عن التمكن من إتمام الحج والعمرة وذلك من استمرار الأمن على أن هذه الحالة حكت ما رآه رسول الله صلى الله عليه وسلم في رؤياه، أي يحلق من رام الحلق ويقصر من رام التقصير، أي لا يعجلهم الخوف عن الحلق فيقتصروا على التقصير. وجملة {لا تخافون} في موضع الحال فيجوز أن تكون مؤكدة ل {آمنين} تأكيداً بالمرادف للدلالة على أن الأمن كامل محقق، ويجوز أن تكون حالاً مؤسسة على أن {آمنين} معمول لفعل {تدخلُنّ} وأن {لا تخافون} معمول ل {ءامنين}، أي آمنين أمن مَن لا يخاف، أي لا تخافون غدراً. وذلك إيماء إلى أنهم يكونون أشد قوة من عدوّهم الذي أمنهم، وهذا يُومِئ إلى حكمة تأخير دخولهم مكة إلى عام قابل حيث يزدادون قوة واستعداداً وهو أظهر في دخولهم عام حجة الوداع. والفاء في قوله: {فعلم ما لم تعلموا} لتفريع الأخبار لا لتفريع المخبر به لأن علم الله سابق على دخولهم وعلى الرؤيا المؤذنة بدخولهم كما تقدم في قوله: {فعلم ما في قلوبهم} [الفتح: 18]. وفي إيثار فعل {جعل} في هذا التركيب دون أن يقول: فتح لكم من دون ذلك فتحاً قريباً أو نحوه إفادة أن هذا الفتح أمره عجيب ما كان ليحصل مثله لولا أن الله كونه. وصيغة الماضي في {جعل} لتنزيل المستقبل المحقق منزلة الماضي، أو لأن {جعل} بمعنى قدر. ودون هنا بمعنى غير، ومِن (م) ابتدائية أو بيانية. والمعنى: فجعل فتحاً قريباً لكم زيادة على ما وعدكم من دخول مكة آمنين. وهذا الفتح أوله هو فتح خيبر الذي وقع قبل عمرة القضية وهذا القريب من وقت الصلح.
{هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدَى وَدِينِ الْحَقِّ لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ وَكَفَى بِاللَّهِ شَهِيدًا (28)} زيادة تحقيق لصدق الرؤيا بأن الذي أرسل رسوله صلى الله عليه وسلم بهذا الدين ما كان ليريه رؤيا صادقة. فهذه الجملة تأكيد للتحقيق المستفاد من حرف (قد) ولام القسم في قوله: {لقد صدق الله رسوله الرؤيا بالحق} [الفتح: 27]. وبهذا يظهر لك حسن موقع الضمير والموصوللِ في قوله: {هو الذي أرسل رسوله} لأن الموصول يفيد العلم بضمون الصلة غالباً. والضمير عائد إلى اسم الجلالة في قوله: {لقد صدق الله رسوله الرؤيا}، وهم يعلمون أن رؤيا الرسول صلى الله عليه وسلم وحي من الله فهو يذكرهم بهاتين الحقيقتين المعلومتين عندهم حين لم يجروا على موجَب العلم بهما فخامرتهم ظنون لا تليق بمن يعلم أن رؤيا الرسول وحي وأن الموحي له هو الذي أرسله فكيف يريه رؤيا غير صادقة. وفي هذا تذكير ولَوْم للمؤمنين الذين غفلوا عن هذا وتعريض بالمنافقين الذين أدخلوا التردد في قلوب المؤمنين. والباء في {بالهدى} للمصاحبة وهو متعلق ب {أرسل} والهدى أطلق على ما به الهدى، أي كقوله تعالى: {ذلك الكتاب لا ريب فيه هدى للمتقين} [البقرة: 2]، وقوله: {شهرُ رمضان الذي أنزل فيه القرآن هدى للناس} [البقرة: 185]. وعطف {دين الحق} على الهدى ليشمل ما جاء به الرسول صلى الله عليه وسلم من الأحكام أصولها وفروعها مما أوحي به إلى الرسول صلى الله عليه وسلم سوى القرآن من كل وحي بكلام لم يقصد به الإعجاز أو كان من سُنّة الرسول صلى الله عليه وسلم ويجوز أن يكون المراد {بالهدى} أصول الدين من اعتقاد الإيمان وفضائل الأخلاق التي بها تزكية النفس، و{بدين الحق}: شرائع الإسلام وفروعه. واللام في {ليظهره} لتعليل فعل {أرسل} ومتعلقاته، أي أرسله بذلك ليظهر هذا الدين على جميع الأديان الإلهية السالفة ولذلك أكد ب {كله} لأنه في معنى الجمع. ومعنى {يظهره} يُعْلِيه. والإظهار: أصله مشتق من ظهر بمعنى بدا، فاستعمل كناية عن الارتفاع الحقيقي ثم أطلق مجازاً عن الشرف فصار أظهره بمعنى أعلاه، أي ليشرفه على الأديان كلها، وهذا كقوله في حق القرآن {مصدقاً لما بين يديه من الكتاب ومهيمنا عليه} [المائدة: 48]. ولما كان المقصود من قوله: {هو الذي أرسل رسوله بالهدى الخ الشهادة بأن الرؤيا صدْق ذيّل الجملة بقوله: وكفى باللَّه شهيداً} أي أجزأتكم شهادة الله بصدق الرؤيا إلى أن تروا مَا صْدَقَها في الإبان. وتقدم الكلام على نظير {وكفى باللَّه شهيداً} في آخر سورة النساء (79).
{مُحَمَّدٌ رَسُولُ اللَّهِ وَالَّذِينَ مَعَهُ أَشِدَّاءُ عَلَى الْكُفَّارِ رُحَمَاءُ بَيْنَهُمْ تَرَاهُمْ رُكَّعًا سُجَّدًا يَبْتَغُونَ فَضْلًا مِنَ اللَّهِ وَرِضْوَانًا سِيمَاهُمْ فِي وُجُوهِهِمْ مِنْ أَثَرِ السُّجُودِ ذَلِكَ مَثَلُهُمْ فِي التَّوْرَاةِ وَمَثَلُهُمْ فِي الْإِنْجِيلِ كَزَرْعٍ أَخْرَجَ شَطْأَهُ فَآَزَرَهُ فَاسْتَغْلَظَ فَاسْتَوَى عَلَى سُوقِهِ يُعْجِبُ الزُّرَّاعَ لِيَغِيظَ بِهِمُ الْكُفَّارَ وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آَمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ مِنْهُمْ مَغْفِرَةً وَأَجْرًا عَظِيمًا (29)} {شَهِيداً * مُّحَمَّدٌ رَّسُولُ الله والذين مَعَهُ أَشِدَّآءُ عَلَى الكفار رُحَمَآءُ بَيْنَهُمْ تَرَاهُمْ رُكَّعاً سُجَّداً يَبْتَغُونَ} لما بيّن صدق الرسول صلى الله عليه وسلم في رؤياه واطمأنت نفوس المؤمنين أعقب ذلك بتنويه شأن الرسول صلى الله عليه وسلم والثناء على المؤمنين الذين معه. و {محمد} خبر مبتدأ محذوف، تقديره: هو محمد يعود هذا الضمير المحذوف على قوله: {رسوله} [الفتح: 28] في الآية قبلها. وهذا من حذف المسند الذي وصفه السكاكي بالحذف الذي الاستعمال وارد على ترك المسند إليه وترك نظائره. قال التفتازاني في «المطول» «ومنه قولهم بعد أن يذكروا رجلاً: فتى من شأنه كذا وكذا، وهو أن يذكروا الديار أو المنازل ربع كذا وكذا». ومن أمثلة «المفتاح» لذاك قوله: (فراجعهما) أي العقل السليم والطبع المستقيم في مثل: قوله سأشكر عمراً إن تراخَتْ منيتي *** أياديَ لم تُمنن وإنْ هيَ جلّت فتى غير محجوب الغنى عن صديقه *** ولا مظهر الشكوى إذا النعل زلت إذ لم يقل: هو فتى. وهذا المعنى هو الأظهر هنا إذ ليس المقصود إفادة أن محمداً رسول الله وإنما المقصود بيان رسول الله من هو بعد أن أجرى عليه من الأخبار من قوله: {لقد صدق الله رسوله الرؤيا بالحق} [الفتح: 27] إلى قوله: {ليظهره على الدين كله} [الفتح: 28] فيعتبر السامع كالمشتاق إلى بيان: مَنْ هذا المتحدث عنه بهذه الأخبار؟ فيقال له: محمد رسول الله، أي هو محمد رسول الله. وهذا من العناية والاهتمام بذكر مناقبه صلى الله عليه وسلم فتعتبر الجملةُ المحذوفُ مبتدؤها مستأنفةً استئنافاً بيانياً. وفيه وجوه أخر لا تخفى، والأحسن منها هذا. وفي هذا نداء على إبطال جحود المشركين رسالته حين امتنعوا من أن يكتب في صحيفة الصلح «هذا ما قاضى عليه محمد رسول الله. وقالوا: لو كنا نعلم أنك رسول الله ما صددناك عن البيت». وقوله: {والذين معه} يجوز أن يكون مبتدأ و{أشداء} خبراً عنه وما بعده إخبار. والمقصود الثناء على أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم ومعنى {معه}: المصاحَبة الكاملة بالطاعة والتأييد كقوله تعالى: {وقال الله إني معكم}. والمراد: أصحابه كلهم لا خصوص أهل الحديبية. وإن كانوا هم المقصود ابتداء فقد عُرفوا بصدق ما عاهدوا عليه الله، ولذلك لما انهزم المسلمون يوم حنين قال رسول الله صلى الله عليه وسلم للعباس بن عبد المطلب نادِ يا أصل السَّمُرة. ويجوز أن يكون {والذين معه} عطفاً على {رسولَه} من قوله: {هو الذي أرسل رسوله بالهدى ودين الحق} [التوبة: 33]. والتقدير: وأرسل الذين معه، أي أصحابه على أن المراد بالإرسال ما يشمل الإذن لهم بواسطة الرسول صلى الله عليه وسلم كقوله تعالى: {إذ أرسلنا إليهم اثنين} [يس: 14] الآية فإن المرسلين إلى أهل أنطاكية كانوا من الحواريين، أمرهم عيسى بنشر الهدى والتوحيد. فيكون الإرسال البعث له في قوله تعالى: {بعثنا عليكم عبادا لَنَا} وعلى هذا يكون {أرسلنا} في هذه الآية مستعملاً في حقيقته ومجازه. و {أشداء}: جمع شديد، وهو الموصوف بالشدة المعنوية وهي صلابة المعاملة وقساوتها، قال تعالى في وصف النار {عليها ملائكة غلاظٌ شداد} [التحريم: 6]. والشدة على الكفار: هي الشدة في قتالهم وإظهار العداوة لهم، وهذا وصف مدح لأن المؤمنين الذين مع النبي صلى الله عليه وسلم كانوا هم فئة الحق ونشر الإسلام فلا يليق بهم إلا إظهار الغضب لله والحب في الله والبغض في الله من الإيمان، وأصحاب النبي صلى الله عليه وسلم أقوى المؤمنين إيماناً من أجْل إشراق أنوار النبوءة على قلوبهم فلا جرم أن يكونوا أشد على الكفار فإن بين نفوس الفريقين تمام المضادة وما كانت كراهيتهم للصلح مع الكفار يوم الحديبية ورغبتهم في قتل أسراهم الذين ثقفوهم يوم الحديبية وعفا عنهم النبي صلى الله عليه وسلم إلا من آثار شدتهم على الكفار ولم تكن لاحت لهم المصلحة الراجحة على القتال وعلى القتل التي آثرها النبي صلى الله عليه وسلم ولذلك كان أكثرهم محاورة في إباء الصلح يومئذٍ أشد أشدّائهم على الكفار وهو عمر بن الخطاب وكان أفهمهم للمصلحة التي توخاها النبي صلى الله عليه وسلم في إبرام الصلح أبا بكر. وقد قال سهل بن حنيف يوم صفين: أيها الناس اتهموا الرأي فلقد رأيتنا يوم أبي جندل، ولو نستطيع أن نرد على رسول الله فعله لرددناه. والله ورسوله أعلم. ثم تكون أحكام الشدة على الكفار من وجوب وندب وإباحة وأحكام صحبتهم ومعاملتهم جارية على مختلف الأحوال ولعلماء الإسلام فيها مقال، وقد تقدم كثير من ذلك في سورة آل عمران وفي سورة براءة. والشدة على الكفار اقتبسوها من شدة النبي صلى الله عليه وسلم في إقامة الدين قال تعالى {بالمؤمنين رؤوف رحيم} [التوبة: 128]. وأما كونهم رحماء بينهم فذلك من رسوخ أخوة الإيمان بينهم في نفوسهم. وقد وردت أخبار أخوتهم وتراحمهم في مواضع كثيرة من القرآن وكلام الرسول صلى الله عليه وسلم وفي الجمع لهم بين هاتين الخلتين المتضادتين الشدّةِ والرحمة إيماء إلى أصالة آرائهم وحكمة عقولهم، وأنهم يتصرفون في أخلاقهم وأعمالهم تصرف الحكمة والرشد فلا تغلب على نفوسهم محمدة دون أخرى ولا يندفعون إلى العمل بالجبلة وعدم الرؤية. وفي معنى هذه الآية قوله تعالى: {فسوف يأتي الله بقوم يحبهم ويحبونه أذلة على المؤمنين أعِزّة على الكافرين} في سورة العقود (54). وفي تعليق رحماء} مع ظرف (بين) المفيد للمكان الداخل وسط ما يضاف هو إليه تنبيه على انبثاث التراحم فيهم جميعاً قال النبي صلى الله عليه وسلم «تجد المسلمين في توادِّهم وتراحمهم كالجسد الواحد إذا اشتكى منه عضو اشتكى له جميع الجسد بالسهر والحمى» والخطاب في {تراهم} لغير معين بل لكل من تتأتى رؤيته إياهم، أي يراهم الرائي. وإيثار صيغة المضارع للدلالة على تكرر ذلك، أي تراهم كلما شئت أن تراهم ركعاً سجداً. وهذا ثناء عليهم بشدة إقبالهم على أفضل الأعمال المزكية للنفس، وهي الصلوات مفروضُها ونافلتها وأنهم يتطلبون بذلك رضى الله ورضوانه. وفي سوق هذا في مساق الثناء إيماء إلى أن الله حقق لهم ما يبتغونه. والسيما: العلامة، وتقدم عند قوله تعالى: {تعرفهم بسيماهم} في البقرة (273) وهذه سيما خاصة هي من أثر السجود. واختلف في المراد من السيما التي وصفت بأنها من أثر السجود} على ثلاثة أنحاء الأول: أنها أثر محسوس للسجود، الثاني أنها من الأثر النفسي للسجود، الثالث أنها أثر يظهر في وجوههم يوم القيامة. فبالأول فسر مالك بن أنس وعكرمة وأبو العالية قال مالك: السيما هي ما يتعلق بجباههم من الأرض عند السجود مثل ما تعلق بجبهة النبي صلى الله عليه وسلم من أثر الطين والماء لما وَكَف المسجد صبيحة إحدى وعشرين من رمضان. وقال السعيد وعكرمة: الأثر كالغدة يكون في جبهة الرجل. وليس المراد أنهم يتكلفون حدوث ذلك في وجوههم ولكنه يحصل من غير قصد بسبب تكرر مباشرة الجبهة للأرض وبشرات الناس مختلفة في التأثر بذلك فلا حرج على من حصل له ذلك إذا لم يتكلفه ولم يقصد به رياء. وقال أبو العالية: يسجدون على التراب لا على الأثواب. وإلى النحو الثاني فسر الأعمش والحسن وعطاء والربيع ومجاهد عن ابن عباس وابن جزء والضحاك. فقال الأعمش: مَن كثرت صلاته بالليل حسن وجهه بالنهار. وقريب منه عن عطاء والربيع بن سليمان. وقال ابن عباس: هو حسن السمت. وقال مجاهد: هو نور من الخشوع والتواضع. وقال الحسن والضحاك: بياض وصفرة وتهيج يعتري الوجوه من السهر. وإلى النحو الثالث فسر سعيد بن جبير أيضاً والزهري وابن عباس في رواية العوفي والحسن أيضاً وخالد الحنفي وعطية وشهر بن حوشب: أنها سِيما تكون لهم يوم القيامة، وقالوا: هي بياض يكون في الوجه يوم القيامة كالقمر ليلة البدر يجعله الله كرامة لهم. وأخرج الطبراني وابن مردويه عن أُبيّ بن كعب قال: قال رسول الله في قوله تعالى: {سيماهم في وجوههم من أثر السجود} [الفتح: 29]: النور يوم القيامة، قيل وسنده حسن وهو لا يقتضي تعطيل بقية الاحتمالات إذ كل ذلك من السيما المحمودة ولكنّ النبي صلى الله عليه وسلم ذَكر أعلاها. وضمائر الغيبة في قوله: {تراهم} و{يبتغون} و{سيماهم في وجوههم} عائدة إلى {الذين معه} على الوجه الأول، وإلى كل من {محمد رسول اللَّه والذين معه} على الوجه الثاني. {السجود ذَلِكَ مَثَلُهُمْ فِى}. الإشارة ب {ذلك} إلى المذكور من صفات الذين مع النبي صلى الله عليه وسلم لأن السابق في الذكر بمنزلة الحاضر فيشار إليه بهذا الاعتبار فاسم الإشارة مبتدأ و{مثلهم} خبره. والمَثل يطلق على الحالة العجيبة، ويطلق على النظير، أي المُشابه فإن كان هنا محمولاً على الحالة العجيبة فالمعنى: أن الصفات المذكورة هي حالهم الموصوف في «التوراة». وقوله: {في التوراة} متعلق ب {مثلهم} أو حال منه. فيحتمل أن في «التوراة» وصف قوم سيأتون ووصفوا بهذه الصفات، فبيّن الله بهذه الآية أن الذين مع النبي صلى الله عليه وسلم هم المقصود بتلك الصفة العجيبة التي في «التوراة»، أي أن «التوراة» قد جاءت فيها بشارة بمجيء محمد صلى الله عليه وسلم ووصف أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم والذي وقفنا عليه في «التوراة» مما يصلح لتطبيق هذه الآية هو البشارة الرمزية التي في الإصحاح الثالث والثلاثين من «سفر التثنية» من قول موسى عليه السلام: «جاء الربُ من سينا وأشرقَ لهم من سَعير وتلألأ من جبل فاران، وأتى من ربوات القُدُس وعن يمينه نار شريعة لهم فأحبّ الشعب جميع قديسيه وهم جالسون عند قدمك يتقبلون من أقوالك» فإن جبل فاران هو حِيال الحجاز. وقوله: «فأحب الشعب جميع قديسيه» يشير إليه قوله: {رحماءُ بينهم} [الفتح: 29]، وقد تقدم من حديث عبد الله بن عمرو بن العاص ما ينطبق على هذا من سورة الفتح وقوله: قديسيه يفيد معنى {تراهم رُكَّعا سُجَّدا} [الفتح: 29] ومعنى {سِيماهم في وجوههم من أثر السجود} [الفتح: 29]. وقوله في «التوراة» «جالسون عند قدمك» يفيد معنى قوله تعالى: {يبتغون فضلاً من الله ورضوانا} [الحشر: 8]. ويكون قوله تعالى: {ذلك} إشارة إلى ما ذكر من الوصف. {التوراة وَمَثَلُهُمْ فِى الإنجيل كَزَرْعٍ أَخْرَجَ شَطْأَهُ فَآزَرَهُ فاستغلظ فاستوى على سُوقِهِ يُعْجِبُ}. ابتداء كلام مبتدأ. ويكون الوقف على قوله: {في التوراة} والتشبيه في قوله: {كزرع} خبره، وهو المثَل. وهذا هو الظاهر من سياق الآية فيكون مشيراً إلى نحو قوله في «إنجيل متى» الإصحاح 13 فقرة 3 «هو ذا الزَارع قد خرج ليزرع يعني عيسى عليه السّلام وفيما هو يزرع سقط بعض على الطريق فجاءت الطيور وأكلته» إلى أن قال «وسقط الآخر على الأرض الجيدة فأعطى ثمره بعض مائة وآخر ستين وآخر ثلاثين». قال فقرة، ثم قال: «وأما المزروع على الأرض الجيدة فهو الذي يسمع الكلمة ويفهم، وهو الذي يأتي بثَمر فيصنع بعضٌ مائةً وبعضٌ ستين وآخر ثلاثين». وهذا يتضمن نماء الإيمان في قلوبهم وبأنهم يدعون الناس إلى الدين حتى يكثر المؤمنون كما تنبت الحبة مائة سنبلة وكما تنبت من النواة الشجرة العظيمة. وفي قوله: {أخرج شطأه} استعارة الإخراج إلى تفرع الفراخ من الحبة لمشابهة التفرع بالخروج ومشابهة الأصل المتفرع عنه بالذي يخرج شيئاً من مكان. والشطْءُ بهمزة في آخره وسكون الطاء: فراخ الزرع وفروع الحبّة. ويقال: أشطأ الزرع، إذا أخرج فروعا. وقرأه الجمهور بسكون الطاء وبالهمز وقرأه ابن كثير {شَطأه} بفتح الطاء بعدها ألف على تخفيف الهمزة ألفا. و {آزره} قوّاه، وهو من المؤازرة بالهمز وهي المعاونة وهو مشتق من اسم الإزار لأنه يشد ظهر المتّزر به ويعينه شدهُ على العمل والحَمل كذا قيل. والأظهر عندي عكس ذلك وهو أن يكون الإزار مشتقاً اسمه من: آزر، لأن الاشتقاق من الأسماء الجامدة نادر لا يصار إلى ادعائه إلا إذا تعين. وصيغة المفاعلة في {آزره} مستعارة لقوة الفعل مثل قولهم: عافاك الله، وقوله تعالى: {وبارك فيها} [فصلت: 10]. والضمير المرفوع في {آزره} للشطء، والضمير المنصوب للزرع، أي قوًى الشطء أصله. وقرأ الجمهور {فآزره}. وقرأه ابن ذكوان عن ابن عامر {فأزَّره} بدون ألف بعد الهمزة والمعنى واحد. ومعنى {استغلظ} غلظ غلظاً شديداً في نوعه، فالسين والتاء للمبالغة مثل: استجاب. والضميران المرفوعان في {استغلظ} و{استوى} عائدان إلى الزرع. والسُوق: جمع ساق على غير قياس لأن ساقا ليس بوصف وهو اسم على زِنة فَعَل بفتحتين. وقراءة الجميع {على سوقه} بالواو بعد الضمة. وقال ابن عطية: قرأ ابن كثير {سُؤقه} بالهمزة أي همزة ساكنة بعد السين المضمومة وهي لغة ضعيفة يهْمزون الواو التي قبلها ضمة ومنه قول الشاعر: لحب المؤقِدان إلى مؤسى وتنسب لقنبل عن ابن كثير ولم يذكرها المفسّرون ولم يذكرها في «حرز الأماني» وذكرها النوري في كتاب «غيث النفع» وكلامه غير واضح في صحة نسبة هذه القراءة إلى قنبل. وساق الزرع والشجرة: الأصل الذي تخرج فيه السنبل والأغصان. ومعنى هذا التمثيل تشبيه حال بدء المسلمين ونمائهم حتى كثروا وذلك يتضمن تشبيه بدء دين الإسلام ضعيفاً وتقويه يوماً فيوماً حتى استحكم أمره وتغلب على أعدائه. وهذا التمثيل قابل لاعتبار تجزئة التشبيه في أجزائه بأن يشبه محمد صلى الله عليه وسلم بالزارع كما مثل عيسى غلب الإسلام في الإنجيل، ويشبه المؤمنون الأولون بحبات الزرع التي يبذرها في الأرض مثل: أبي بكر وخديجة وعلي وبلال وعمّار، والشطْء: من أيدوا المسلمين فإن النبي صلى الله عليه وسلم دعا إلى الله وحده وانضم إليه نفر قليل ثم قواه الله بمن ضامن معه كما يقوي الطاقة الأولى من الزرع ما يحتف بها مما يتولد منها حتى يعجب الزرّاع. وقوله: {يعجب الزراع} تحسين للمشبّه به ليفيد تحسين المشبه. {الزراع لِيَغِيظَ بِهِمُ}. تعليل لما تضمنه تمثيلهم بالزرع الموصوف من نمائهم وترقيهم في الزيادة والقوة لأن كونهم بتلك الحالة من تقدير الله لهم أن يكونوا عليها فمثل بأنه فعل ذلك ليغيظ بهم الكفار. قال القرطبي: قال أبو عروة الزبيري: كنا عند مالك بن أنس فذكروا عنده رجلاً ينتقص أصحاب رسول الله فقرأ مالك هذه الآية {محمد رسول الله} إلى أن بلغ قوله: {ليغيظ بهم الكفار} فقال مالك: من أصبح من الناس في قلبه غيظ على أحد من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم فقد أصابته هذه الآية. وقلت: رحم الله مالك بن أنس ورضي عنه ما أدق استنباطه. {الكفار وَعَدَ الله الذين ءَامَنُواْ وَعَمِلُواْ الصالحات مِنْهُم مَّغْفِرَةً وَأَجْراً}. أعقب تنويه شأنهم والثناء عليهم بوعدهم بالجزاء على ما اتصفوا به من الصفات التي لها الأثر المتين في نشر ونصر هذا الدين. وقوله: {منهم} يجوز أن تكون (من) للبيان كقوله {فاجتنبوا الرجس من الأوثان} [الحج: 30] وهو استعمال كثير، ويجوز إبقاؤه على ظاهر المعنى من التبعيض لأنه وعد لكل من يكون مع النبي صلى الله عليه وسلم في الحاضر والمستقبل فيكون ذكر (من) تحذيراً وهو لا ينافي المغفرة لجميعهم لأن جميعهم آمنوا وعملوا الصالحات وأصحاب الرسول صلى الله عليه وسلم هم خيرة المؤمنين.
{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا لَا تُقَدِّمُوا بَيْنَ يَدَيِ اللَّهِ وَرَسُولِهِ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ (1)} الافتتاح بنداء المؤمنين للتنبيه على أهمية ما يرد بعد ذلك النداء لتترقبه أسماعهم بشوق. ووَصْفُهم ب {الذين آمنوا} جار مجرى اللقب لهم مع ما يؤذِن به أصله من أهليتهم لتلقي هذا النهي بالامتثال. وقد تقدم عند الكلام على أغراض السورة أن الفخر ذكر أن الله أرشد المؤمنين إلى مكارم الأخلاق، وهي إما في جانب الله أو جانب رسوله صلى الله عليه وسلم أو بجانب الفساق أو بجانب المؤمن الحاضر أو بجانب المؤمن الغائب، فهذه خمسة أقسام، فذكر الله في هذه السورة خمس مرات {يا أيها الذين آمنوا} فأرشد في كل مرة إلى مكرمة مع قسم من الأقسام الخمسة إلخ، فهذا النداء الأول اندرج فيه واجب الأدب مع الله ورسوله صلى الله عليه وسلم تعرض الغفلة عنها. رضي الله عن والتقدم حقيقته: المشي قبل الغير، وفعله المجرد: قَدُم من باب نصر قال تعالى: {يَقْدُم قومه يوم القيامة} [هود: 98]. وحق قدم بالتضعيف أن يصير متعدياً إلى مفعولين لكن ذلك لم يرد وإنما يعدّى إلى المفعول الثاني بحرف على. ويقال: قدَّم بمعنى تَقدم كأنه قدّم نفسه، فهو مضاعف صار غير متعد. فمعنى {لا تقدموا} لا تتقدموا. ففعل {لا تقدموا} مضارع قَدَّم القاصر بمعنى تقدم على غيره وليس لهذا الفعل مفعول، ومنه اشتقت مقدمة الجيش للجماعة المتقدمة منه وهي ضد الساقة. ومنه سميت مقدمةَ الكتاب الطائفةُ منه المتقدمة على الكتاب. ومادة فَعَّل تجيء بمعنى تفعّل مثل وجّه بمعنى توجّه وبَيَّن بمعنى تبيّن، ومن أمثالهم بَيّن الصبح لذي عينين. والتركيب تمثيل بتشبيه حال من يفعل فعلاً دون إذن مِن الله ورسوله صلى الله عليه وسلم بحال من يتقدم مُماشِيَه في مَشيه ويتركه خلفه. ووجه الشبه الانفراد عنه في الطريق. والنهي هنا للتحذير إذ لم يسبق صدور فعل من أحد افتياتا على الشرع. ويستروح من هذا أن هذا التقدم المنهي عنه هو ما كان في حالة إمكان الترقب والتمكن من انتظار ما يبرمه الرسول صلى الله عليه وسلم بأمر الله فيومئ إلى أن إبرام الأمر في غيبة الرسول صلى الله عليه وسلم لا حرج فيه. وهذه الآية تؤيد قول الفقهاء: إن المكلف لا يقدِم على فعل حتى يعلم حكم الله فيه. وعدّ الغزالي العلمَ بحكم ما يُقدم عليه المكلف من قسم العلوم التي هي فرض على الأعيان الذين تعرض لهم. والمقصود من الآية النهي عن إبرام شيء دون إذن من رسول الله صلى الله عليه وسلم فذكر قبله اسم الله للتنبيه على أن مراد الله إنما يعرف من قبل الرسول صلى الله عليه وسلم وقد حصل من قوله: {لا تقدموا} الخ معنى اتبعوا الله ورسوله. وسبب نزول هذه الآية ما رواه البخاري في «صحيحه» في قصة وفد بني تميم بسنده إلى ابن الزبير قال «قدم ركب من بني تميم على النبي صلى الله عليه وسلم فقال أبو بكر: أمَّرْ عليهم القعقاع بن معبد بن زُرارة. وقال عُمر: بل أمِّر الأقرعَ بن حابس. قال أبو بكر: ما أردت إلاّ خلافي أو إلَى خلافي قال عمر: ما أردت خِلافك أو إلى خلافك فتماريا حتى ارتفعت أصواتهما في ذلك فنزل {يا أيها الذين آمنوا لا تقدموا بين يدي الله ورسوله واتقوا الله إن الله سميع عليم يا أيها الذين آمنوا لا ترفعوا أصواتكم فوق صوت النبي ولا تجهروا له بالقول كجهر بعضكم لبعض أن تحبط أعمالكم وأنتم لا تشعرون} [الحجرات: 1، 2]. فهذه الآية توطئة للنهي عن رفع الأصوات عند رسول الله صلى الله عليه وسلم والجهرِ له بالقول وندائه من وراء الحجرات. وعن الضحاك عن ابن عباس أنها نزلت بسبب بَعث رسول الله صلى الله عليه وسلم سَرية فقتلتْ بنُو عامر رجالَ السرية إلا ثلاثة نَفرٍ نَجَوا فلقُوا رجلين من بين سُليم فسألوهما عن نسبتهما فاعتزيا إلى بني عامر ظنّاً منهما أن هذا الاعتزاء أنجى لهما من شر توقعاه لأن بني عامر أعزُّ من بني سليم، فقتلوا النفر الثلاثة وسلبوهما ثم أتوا رسول الله صلى الله عليه وسلم فأخبروه فقال: " بئسما صنعتم كانَا من بني سليم، والسلَب ما كَسَوْتُهما " أي عرف ذلك لما رأى السلب فعَرَفه بأنه كساهما إياه وكانت تلك الكسوة علامة على الإسلام لئلا يتعرض لهم المسلمون فوادهما رسول الله صلى الله عليه وسلم ونزلت {يا أيها الذين آمنوا لا تقدموا} الآية، أي لا تعملوا شيئاً من تلقاء أنفسكم في التصرف من الأمة إلا بعد أن تستأمروا رسول الله صلى الله عليه وسلم وعلى هذه الرواية تكون القصة جرت قبيل قصة بني تميم فقرنت آيتاهما في النزول. وهنالك روايات أخرى في سبب نزولها لا تناسب موقع الآية مع الآيات المتصلة بها. وأيَّا مَّا كان سبب نزولها فهي عامة في النهي عن جميع أحوال التقدم المراد. وجعلت هذه الآية في صدر السورة مقدَّمة على توبيخ وفد بني تميم حين نادوا النبي صلى الله عليه وسلم من وراء الحجرات لأن ما صدر من بني تميم هو من قبيل رفع الصوت عند النبي صلى الله عليه وسلم ولأن مماراة أبي بكر وعمرَ وارتفاع أصواتهما كانت في قضية بني تميم فكانت هذه الآية تمهيداً لقوله: {يا أيها الذين آمنوا لا ترفعوا أصواتكم فوق صوت النبي الآية، لأن من خصه الله بهذه الحظوة، أي جعل إبرام العمل بدون أمره كإبرامه بدون أمر الله حقيق بالتهيب والإجلال أن يخفض الصوت لديه. وإنما قدم هذا على توبيخ الذين نادوا النبي لأن هذا أولى بالاعتناء إذ هو تأديب من هو أولى بالتهذيب. وقرأه الجمهور تقدموا} بضم الفوقية وكسر الدال مشددة. وقرأه يعقوب بفتحهما على أن أصله: لا تتقدموا. وقال فخر الدين عند الكلام على قوله تعالى: {يا أيها الذين آمنوا إن جاءكم فاسق بنَبإ فتبيّنوا} [الحجرات: 6] في هذه السورة: إن فيها إرشاد المؤمنين إلى مكارم الأخلاق وهي: إما مع الله أو مع رسوله صلى الله عليه وسلم أو مع غيرهما من أبناء الجنس وهم على صنفين لأنهم: إما أن يكونوا على طريقة المؤمنين من الطاعة، وإمّا أن يكونوا خارجين عنها بالفسق؛ والداخل في طريقتهم: إما حاضر عندهم، أو غائب عنهم، فذكر الله في هذه السورة خمس مرات {يا أيها الذين آمنوا} وأرشد بعد كل مرة إلى مكرمة من قسم من الأقسام الخمسة. فقال أولاً: {يا أيها الذين آمنوا لا تقدموا بي يدي اللَّه ورسوله} وهي تشمل طاعة الله تعالى، وذُكر الرسول معه للإشارة إلى أن طاعة الله لا تعلم إلا بقول الرسول فهذه طاعة للرسول تابعة لطاعة الله. وقال ثانياً: {يا أيها الذين آمنوا لا ترفعوا أصواتكم فوق صوت النبي} [الحجرات: 2] لبيان الأدب مع النبي صلى الله عليه وسلم لذاته في باب حسن المعاملة. وقال ثالثاً: {يا أيها الذين آمنوا إن جاءكم فاسق بنبإ} الآية للتنبيه على طريقة سلوك المؤمنين في معاملة من يعرف بالخروج عن طريقتهم وهي طريقة الاحتراز منه لأن عمله إفساد في جماعتهم، وأعقبه بآية {وإن طائفتان من المؤمنين اقتتلوا} [الحجرات: 9]. وقال رابعاً {يا أيها الذين آمنوا لا يسخر قوم من قوم} [الحجرات: 11] إلى قوله: {فأولئك هم الظالمون} [البقرة: 229] فنهى عما يكثر عدم الاحتفاظ فيه من المعاملات اللسانية التي قلّما يقام لها وزن. وقال خامساً: {يا أيها الذين آمنوا اجتنبوا كثيراً من الظن إلى قوله: تواب رحيم} [الحجرات: 12] اه. ويريد: أن الله ذكر مثالاً من كل صنف من أصناف مكارم الأخلاق بحسب ما اقتضته المناسبات في هذه السورة بعد الابتداء بما نزلت السورة لأجله ابتداء ليكون كل مثال منها دالاً على بقية نوعه ومرشداً إلى حكم أمثاله دون كلفة ولا سآمة. وقد سلك القرآن لإقامة أهم حُسن المعاملة طريقَ النهي عن أضدادها من سوء المعاملة لأن درء المفسدة مقدم في النظر العقلي على جلب المصلحة. وعَطْف {واتقوا اللَّه} تكملة للنهي عن التقدم بين يدي الرسول صلى الله عليه وسلم ليدل على أن ترك إبرام شيء دون إذن الرسول صلى الله عليه وسلم من تقوى الله وحده، أي ضده ليس من التقوى. وجملة {إن اللَّه سميع عليم} في موضع العلة للنهي عن التقدم بين يدي الله ورسوله وللأمر بتقوى الله. والسميع: العليم بالمسموعات، والعليم أعم وذكرها بين الصفتين كناية عن التحذير من المخالفة ففي ذلك تأكيد للنهي والأمر.
{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا لَا تَرْفَعُوا أَصْوَاتَكُمْ فَوْقَ صَوْتِ النَّبِيِّ وَلَا تَجْهَرُوا لَهُ بِالْقَوْلِ كَجَهْرِ بَعْضِكُمْ لِبَعْضٍ أَنْ تَحْبَطَ أَعْمَالُكُمْ وَأَنْتُمْ لَا تَشْعُرُونَ (2)} إعادة النداء ثانياً للاهتمام بهذا الغرض والإشعار بأنه غرض جدير بالتنبيه عليه بخصوصه حتى لا ينغمر في الغرض الأول فإن هذا من آداب سلوك المؤمنين في معاملة النبي صلى الله عليه وسلم ومقتضى التأدب بما هو آكد من المعاملات بدلالة الفحوى. وهذا أيضاً توطئة لقوله: {إن الذين ينادونك من وراء الحجرات أكثرهم لا يعقلون} [الحجرات: 4] وإلقاءٌ لتربية ألقيت إليهم لمناسبة طرف من أطراف خبر وفد بني تميم. والرفع: مستعار لجهر الصوت جهراً متجاوزاً لِمعتاد الكلام، شبه جهر الصوت بإعلاء الجسم في أنه أشدّ بلوغاً إلى الأسماع كما أن إعلاء الجسم أوضح له في الإبصار، على طريقة الاستعارة المكنية، أو شبه إلقاء الكلام بجهر قويّ بإلقائه من مكان مرتفع كالمئذنة على طريقة الاستعارة التبعية. و {فوق صوت النبي} ترشيح لاستعارة {لا ترفعوا} وهو فوْق مجازي أيضاً. وموقع قوله: {فوق صوت النبي} موقع الحال من {أصواتكم}، أي متجاوزة صوت النبي صلى الله عليه وسلم أي متجاوزة المعتاد في جهر الأصوات فإن النبي صلى الله عليه وسلم يتكلم بجهر معتاد. ولا مفهوم لهذا الظرف لأنه خارج مخرج الغالب، إذ ليس المراد أنه إذا رفع النبي صلى الله عليه وسلم صوته فارفعوا أصواتكم بمقدار رفعه. والمعنى: لا ترفعوا أصواتكم في مجلسه وبحضرته إذا كلم بعضُكم بعضاً كما وقع في سُورة سبب النزول. ولقد تحصل من هذا النهي معنى الأمر بتخفيض الأصوات عند رسول الله صلى الله عليه وسلم إذ ليس المراد أن يكونوا سكوتا عنده. وفي «صحيح البخاري»: قال ابن الزبير فما كان عُمر يُسمع رسول الله صلى الله عليه وسلم بعد هذه الآية حتى يستفهمه. ولم يذكر أي ابن الزبير ذلك عن أبيه يعني أبا بكر ولكن أخرج الحاكم وعبد بن حُميد عن أبي هريرة: أن أبا بكر قال بعد نزول هذه الآية (والذي أنزل عليك الكتاب يا رسول الله لا أكلمك إلاّ كأخِي السِّرَار حتى ألقى الله). وفي «صحيح البخاري» قال ابن أبي مليكة «كاد الخَيران أن يهلكا أبو بكر وعمر رفعا أصْوَاتَهما عند النبي صلى الله عليه وسلم. وهذا النهي مخصوص بغير المواضع التي يؤمر بالجهر فيها كالأذان وتكبير يوم العيد، وبغير ما أذِن فيه النبي صلى الله عليه وسلم إذناً خاصاً كقوله للعباس حين انهزم المسلمون يوم حنين «نَادِ يا أصحابَ السَّمُرة» وكان العباس جهير الصوت. وقوله: {ولا تجهروا له بالقول كجهر بعضكم لبعض} نهي عن جهر آخر وهو الجهر بالصوت عند خطابهم الرسول صلى الله عليه وسلم لوجوب التغاير بين مقتضَى قوله: {لا ترفعوا أصواتكم فوق صوت النبي} ومقتضَى {ولا تجهروا له بالقول}. واللام في {له} لتعدية {تجهروا} لأن {تجهروا} في معنى: تقولوا، فدلت اللام على أن هذا الجهر يتعلق بمخاطبته، وزاده وضوحاً التشبيه في قوله: {كجهر بعضكم لبعض}. وفي هذا النهي ما يشمل صنيع الذين نادَوا النبي صلى الله عليه وسلم من وراء الحجرات فيكون تخلصاً من المقدمة إلى الغرض المقصود، ويظهر حسن موقع قولِه بعده {إن الذين ينادونك من وراء الحجرات أكثرهم لا يعقلون} [الحجرات: 4]. و {أن تحبط أعمالكم} في محل نصب على نزع الخافض وهو لام التعليل وهذا تعليل للمنهي عنه لا للنهي، أي أن الجهر له بالقول يفضي بكم إن لم تكفوا عنه أن تحبط أعمالكم، فحبط الأعمال بذلك ما يحذر منه فجعله مدخولاً للام التعليل مصروف عن ظاهر. فالتقدير: خشية أن تحبط أعمالكم، كذا يقدّر نحاة البصرة في هذا وأمثاله. والكوفيون يجعلونه بتقدير (لا) النافية فيكون التقدير: أنْ لا تحبَط أعمالكم فيكون تعليلاً للنهي على حسب الظاهر. والحَبْط: تمثيل لعدم الانتفاع بالأعمال الصالحة بسبب ما يطرأ عليها من الكفر مأخوذ من حَبِطَت الإبل إذا أكلت الخضر فنفخ بطونها وتعتلّ وربما هلكت. وفي الحديث «وإن مما يُنبت الربيعُ لَمَا يقتل حَبطاً أو يُلمّ» وتقدم في سورة المائدة قوله تعالى: {ومن يكفر بالإيمان فقد حَبط عملُه} [المائدة: 5]. وظاهر الآية التحذير من حبط جميع الأعمال لأن الجمع المضاف من صيغ العموم ولا يكون حبط جميع الأعمال إلا في حالة الكفر لأن الأعمال الإيمان فمعنى الآية: أن عدم الاحتراز من سوء الأدب مع النبي صلى الله عليه وسلم بعد هذا النهي قد يفضي بفاعله إلى إثم عظيم يأتي على عظيم من صالحاته أو يفضي به إلى الكفر. قال ابن عطية: أي يكون ذلك سبباً إلى الوحشة في نفوسكم فلا تزال معتقداتكم تتدرج القهقرى حتى يؤول ذلك إلى الكفر فحَبط الأعمال. وأقول: لأن عدم الانتهاء عن سوء الأدب مع الرسول صلى الله عليه وسلم يعود النفس بالاسترسال فيه فلا تزال تزداد منه وينقص توفير الرسول صلى الله عليه وسلم من النفس وتتولى من سيّئ إلى أشد منه حتى يؤول إلى عدم الاكتراث بالتأدب معه وذلك كفر. وهذا معنى {وأنتم لا تشعرون} لأن المنتقل من سيّئ إلى أسوأ لا يشعر بأنه آخذ في التملّي من السوء بحكم التعوّد بالشيء قليلاً قليلاً حتى تغمره المعاصي وربّما كان آخرها الكفر حين تضْرَى النفس بالإقدام على ذلك. ويجوز أن يراد حبط بعض الأعمال على أنه عام مراد به الخصوص فيكون المعنى حصول حطيطة في أعمالهم بغلبة عظم ذنب جهرهم له بالقول، وهذا مجمل لا يعلم مقدار الحبط إلا الله تعالى. ففي قوله: {وأنتم لا تشعرون} تنبيه إلى مزيد الحذر من هذه المهلكات حتى يصير ذلك دُربة حتى يصل إلى ما يحبط الأعمال، وليس عدم الشعور كائناً في إتيان الفعل المنهي عنه لأنه لو كان كذلك لكان صاحبه غير مكلف لامتناع تكليف الغافل ونحوه.
{إِنَّ الَّذِينَ يَغُضُّونَ أَصْوَاتَهُمْ عِنْدَ رَسُولِ اللَّهِ أُولَئِكَ الَّذِينَ امْتَحَنَ اللَّهُ قُلُوبَهُمْ لِلتَّقْوَى لَهُمْ مَغْفِرَةٌ وَأَجْرٌ عَظِيمٌ (3)} عن ابن عباس لما نزل قوله تعالى: {لا ترفعوا أصواتكم فوق صوت النبي} [الحجرات: 2] كان أبو بكر لا يكلم رسولَ الله إلا كأخي السِّرار، أي مصاحب السرِّ من الكلام، فأنزل الله تعالى: {إن الذين يغضون أصواتهم عند رسول اللَّه} الآية. فهذه الجملة استئناف بياني لأن التحذير الذي في قوله: {أن تحبط أعمالكم} [الحجرات: 2] الخ يثير في النفس أن يسأل سائل عن ضد حال الذي يرفع صوته. وافتتاح الكلام بحرف التأكيد للاهتمام بمضمونه من الثناء عليهم وجزاء عملهم، وتفيد الجملة تعليلَ النهيين بذكر الجزاء عن ضد المنهي عنهُما وأكد هذا الاهتمام باسم الإشارة في قوله: {أولئك الذين امتحن الله قلوبهم للتقوى} مع ما في اسم الإشارة من التنبيه على أن المشار إليهم جديرون بالخبر المذكور بعده لأجللِ ما ذكر من الوصف قبل اسم الإشارة. وإذ قد علمت آنفاً أن محصل معنى قوله: {لا ترفعوا أصواتكم} وقوله: {ولا تجهروا} [الحجرات: 2] الأمر بخفض الصوت عند النبي صلى الله عليه وسلم يتضح لك وجهُ العدول عن نوط الثناء هنا بعدم رفع الصوت وعدم الجهر عند الرسول صلى الله عليه وسلم إلى نوطه بغض الصوت عنده. والغض حقيقته: خفض العين، أي أن لا يُحدق بها إلى الشخص وهو هنا مستعار لِخفض الصوت والميللِ به إلى الإسرار. والامتحان: الاختبار والتجربة، وهو افتعال من مَحَنه، إذا اختبره، وصيغة الافتعال فيه للمبالغة كقولهم: اضطره إلى كذا. واللام في قوله: للتقوى لام العلة، والتقدير: امتحن قلوبهم لأجل التقوى، أي لتكون فيها التقوى، أي ليكونوا أتقياء، يقال: امتحَن فلان للشيء الفلاني كما يقال: جرب للشيء ودُرب للنهوض بالأمر، أي فهو مضطلع به ليس بِواننٍ عنه فيجوز أن يجعل الامتحان كناية على تمكّن التقوى من قلوبهم وثباتهم عليها بحيث لا يوجدون في حال مَّا غيرَ متقين وهي كناية تلويحية لكون الانتقال بعدة لوازم، ويجوز أن يجعل فعل {امتحن} مجازاً مرسلاً عن العلم، أي علم الله أنهم متقون، وعليه فتكون اللام من قوله: {للتقوى} متعلّقة بمحذوف هو حال من قلوب، أي كائنة للتقوى، فاللام للاختصاص. وجملة {لهم مغفرة} خبر {إنّ} وهو المقصود من هذه من الجملة المستأنفة وما بينهما اعتراض للتنويه بشأنه. وجعل في «الكشاف» خبر {إنَّ} هو اسم الإشارة مع خبره وجعل جملة {لهم} مستأنفة ولكل وجه فانظره. وقال: «وهذه الآية بنظمها الذي رتبت عليه من إيقاع الغاضين أصواتهم اسماً ل {إنّ} المؤكّدة وتصيير خبرها جملة من مبتدأ وخبر معرفتين معاً. والمبتدأ اسم الإشارة، واستئناف الجملة المستودَعة ما هو جزاؤهم على عملهم، وإيراد الجزاء نكرة مبهماً أمره ناظرة في الدلالة على غاية الاعتداد والارتضاء لما فعَل الذين وقَّروا رسول الله صلى الله عليه وسلم وفي الإعلام بمبلغ عزة رسول الله وقدر شرف منزلته» اه. وهذا الوعد والثناء يشملان ابتداءً أبا بكر وعمر إذ كان كلاهما يكلّم رسول الله صلى الله عليه وسلم كأخي السِّرار.
{إِنَّ الَّذِينَ يُنَادُونَكَ مِنْ وَرَاءِ الْحُجُرَاتِ أَكْثَرُهُمْ لَا يَعْقِلُونَ (4) وَلَوْ أَنَّهُمْ صَبَرُوا حَتَّى تَخْرُجَ إِلَيْهِمْ لَكَانَ خَيْرًا لَهُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ (5)} هذه الجملة بيان لجملة {ولا تجهروا له بالقول كجهر بعضكم لبعض} [الحجرات: 2] بياناً بالمثال وهو سبب النزول. فهذا شروع في الغرض والذي نشأ عنه ما أوجب نزول صدر السورة فافتتح به لأن التحذير والوعد اللذين جعلا لأجله صالحان لأن يكونا مقدمة للمقصود فحصل بذلك نسج بديع وإيجاز جليل وإن خالف ترتيب ذكره ترتيبَ حصوله في الخارج، وقد صادف هذا الترتيب المحز أيضاً إذ كان نداؤهم من وراء الحجرات من قبيل الجهر للرسول صلى الله عليه وسلم بالقول كجهر بعضهم لبعض فكان النهي عن الجهر له بالقول تخلصاً لذكر ندائه من وراء الحجرات. والمراد بالذين ينادون النبي صلى الله عليه وسلم من وراء الحجرات جماعة من وفد بني تميم جاؤوا المدينة في سنة تسع وهي سنة الوفود وكانوا سبعين رجلاً أو أكثر. وكان سبب وفود هذا الوفد إلى النبي صلى الله عليه وسلم أن بني العنبر منهم كانوا قد شهروا السلاح على خزاعة، وقيل كانوا منعوا إخوانهم بني كعب بن العنبر بن عمرو بن تميم من إعطاء الزكاة، وكان بنو كعب قد أسلموامن قبلُ ولم أقف على وقت إسلامهم، والظاهر أنهم أسلموا في سنة الوفود فبعث رسول الله صلى الله عليه وسلم بشر بن سفيان ساعياً لقبض صدقات بني كعب، فمنعهم بنو العنبر فبعث النبي صلى الله عليه وسلم عُيينة بنَ حصن في خمسين من العرب ليس فيهم أنصاري ولا مهاجري فأسر منهم أحد عشر رجلاً وإحدى عشرة امرأة وثلاثين صبياً. فجاء في أثرهم جماعة من رؤسائهم لفدائهم فجاؤوا المدينة. وكان خطيبهم عطارد بن حاجب بن زراره، وفيهم سادتهم الزبرقان بن بدر، وعمرو بن الأهتم، والأقْرع بن حابس، ومعهم عيينة بن حصن الفزاري الغَطفاني وكان هذان الأخيران أسلما من قبل وشهدا مع النبي صلى الله عليه وسلم غزوة الفتح، ثم جاء معهم الوفد فلما دخل الوفد المسجد وكان وقت القائلة ورسول الله صلى الله عليه وسلم نائم في حجرته، نَادوا جميعاً وراء الحجرات: يا محمد اخرُج إلينا ثلاثاً، فإن مَدحَنا زَين، وإن ذمنا شَيْن، نحن أكرم العرب سلكوا في عملهم هذا مسلك وفود العرب على الملوك والسادة، كانوا يأتون بيت الملك أو السيد فيطيفون به يُنادون ليؤذن لهم كما ورد في قصة ورود النابغة على النعمان بن الحارث الغسَاني. وقولهم: إن مدحنا زيْن، طريقة كانوا يستدرون بها العظماء للعطاء فإضافة: مدحنا وذمنا إلى الضمير من إضافة المصدر إلى فاعله. فلما خرج إليهم رسول الله قالوا: جئناك نفاخرك فَاذَنْ لشاعرنا وخطِيبنا إلى آخر القصة. وقولهم: نفاخرك، جروا فيه على عادة الوفود من العرب أن يذكروا مفاخرهم وأيامهم، ويذكرَ الموفُودُ عليهم مفاخرَهم، وذلك معنى صيغة المفاعلة في قولهم: نفاخرك، وكان جمهورهم لم يزالوا كفاراً حينئذٍ وإنما أسلموا بعد أن تفاخروا وتناشدوا الأشعار. فالمراد ب {الذين ينادونك} رجال هذا الوفد. وإسناد فعل النداء إلى ضمير {الذين} لأن جميعهم نادوه، كما قال ابن عطية. ووقع في حديث البراء بن عازب أن الذي نادى النداء هو الأقرع بن حابس، وعليه فإسناد فعل {ينادونك} إلى ضمير الجماعة مجاز عقلي عن نسبة فعل المتبوع إلى أتباعه إذ كان الأقرع بن حابس مقدَّم الوفد، كما يقال: بنو فلان قتلوا فلاناً. وإنما قتله واحد منهم، قال تعالى: {وإذ قتلتم نفساً} [البقرة: 72]. ونفي العقل عنهم مراد به عقل التأدب الواجب في معاملة النبي صلى الله عليه وسلم أو عقل التأدب المفعول عنه في عادتهم التي اعتادوها في الجاهلية من الجفاء والغلظة والعنجهية، وليس فيها تحريم ولا ترتب ذنب. وإنما قال الله تعالى: {أكثرهم لا يعقلون} لأن منهم من لم يناد النبي صلى الله عليه وسلم مثلَ ندائهم، ولعل المقصود استثناء اللذيْن كانا أسلما من قبل. فهذه الآية تأديب لهم وإخراج لهم من مذام أهل الجاهلية. والوراء: الخلف، وهو جهة اعتبارية بحسب موقع ما يضاف إليه. والمعنى: أن الحجرات حاجزة بينهم وبين النبي صلى الله عليه وسلم فهم لا يرونه فعبر عن جهة من لا يرى بأنها وراء. و {من} للابتداء، أي ينادونك نداء صادراً من وراء الحجرات فالمنادون بالنسبة إلى النبي صلى الله عليه وسلم كانوا وراء حجراته فالذي يقول: ناداني فلان وراء الدار، لا يريد وراء مفتح الدار ولا وراء ظهرها ولكن أيَّ جهة منها وكان القوم المنادون في المسجد فهم تجاه الحجرات النبوية، ولو قال: ناداني فلان وراء الدار، دون حرف {مِن}، لكان محتمِلاً لأن يكون المنادي والمنادَى كلاهما في جهة وراء الدار، وأنَّ المجرور ظرف مستقر في موضع الحال من الفاعل أو المفعول ولهذا أوثر جلب {مِن} ليدل بالصراحة على أن المنادَى كان داخل الحجرات لأن دلالة {مِن} على الابتداء تستلزم اختلافاً بين المبدإ والمنتهَى كذا أشار في «الكشاف»، ولا شك أنه يعني أن اجتلاب حرف {مِن} لدفع اللبس فلا ينافي أنه لم يُثبت هذا الفرق في قوله تعالى: {ثم لآتينهم من بين أيديهم ومن خلفهم} في سورة الأعراف (17) وقوله: {ثم إذا دعاكم دعوة من الأرض} في سورة الروم (25). وفيما ذكرنا ما يدفع الاعتراضات على صاحب الكشاف}. فلفظ {وراء} هنا مجاز في الجهة المحجوبة عن الرؤية. والحُجُرات، بضمتين ويجوز فتح الجيم: جمع حُجْرة بضم الحاء وسكون الجيم وهي البقعة المحجورة، أي التي منعت من أن يستعملها غير حاجرها فهي فُعلة بمعنى مفعولة كغُرفة، وقُبضة. وفي الحديث: أيقظوا صواحب الحجر يعني أزواجه، وكانت الحجرات تفتح إلى المسجد. وقرأ الجمهور {الحجرات} بضمتين. وقرأه أبو جعفر بضم الحاء وفتح الجيم. وكانت الحجرات تِسعاً وهي من جريد النخل، أي الحواجز التي بين كل واحدة والأخرى، وعلى أبوابها مُسوح من شعر أسود وعَرض البيت من باب الحجرة إلى باب البيت نحو سبعة أذرع، ومساحة البيت الداخل، أي الذي في داخل الحجرة عشرة أذرع، أي فتصير مساحة الحجرة مع البيت سبعة عشر ذراعاً. قال الحسن البصري: كنت أدخل بيوت أزواج النبي صلى الله عليه وسلم في خلافة عثمان بن عفان فأتناول سُقْفها بيدي. وإنما ذكر الحجرات دون البيوت لأن البيت كان بيتاً واحداً مقسماً إلى حجرات تسع. وتعريف {الحجرات} باللام تعريف العهد، لأن قوله: {ينادونك} مؤذن بأن الحجرات حجراته فلذلك لم تعرف بالإضافة. وهذا النداء وقع قبل نزول الآية فالتعبير بصيغة المضارع في {ينادونك} لاستحضار حالة ندائهم. ومعنى قوله: {ولو أنهم صبروا حتى تخرج إليهم لكان خيراً لهم} أنه يكسبهم وقارا بين أهل المدينة ويستدعي لهم الإقبال من الرسول صلى الله عليه وسلم إذ يخرج إليهم غير كاره لندائهم إياه، ورفع أصواتهم في مسجده فكان فيما فعلوه جلافة. فقوله: {خيراً} يجوز أن يكون اسم تفضيل، ويكون في المعنى: لكان صبرهم أفضل من العجلة. ويجوز أن يكون اسما ضدّ الشر، أي لكان صبرهم خيراً لما فيه من محاسن الخُلق بخلاف ما فعلوه فليس فيه خير، وعلى الوجهين فالآية تأديب لهم وتعليمهم محاسن الأخلاق وإزالة لعوائد الجاهلية الذميمة. وإيثار {حتى} في قوله: {حتى تخرج إليهم} دون (إلى) لأجل الإيجاز بحذف حرف (أن) فإنه ملتزم حذفه بعد {حتّى} بخلافه بعد (إلى) فلا يجوز حذفه. وفي تعقيب هذا اللوم بقوله: {واللَّه غفور رحيم} إشارة إلى أنه تعالى لم يُحْص عليهم ذنباً فيما فعلوا ولا عَرّض لهم بتوبة. والمعنى: والله شأنه التجاوز عن مثل ذلك رحمة بالناس لأن القوم كانوا جاهلين.
{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا إِنْ جَاءَكُمْ فَاسِقٌ بِنَبَإٍ فَتَبَيَّنُوا أَنْ تُصِيبُوا قَوْمًا بِجَهَالَةٍ فَتُصْبِحُوا عَلَى مَا فَعَلْتُمْ نَادِمِينَ (6)} هذا نداء ثالث ابتدئ به غرض آخر وهو آداب جماعات المؤمنين بعضهم مع بعض وقد تضافرت الروايات عند المفسرين عن أم سلمة وابن عباس والحارث بن ضرارة الخزاعي أن هذه الآية نزلت عن سبب قضية حدثت. ذلك أن النبي صلى الله عليه وسلم بعث الويد بن عقبة بن أبي مُعيط إلى بني المصطلق من خزاعة ليأتي بصدقاتهم فلمّا بلغهم مجيئه، أو لمّا استبطأُوا مجيئه، فإنهم خرجوا لتلقيه أو خرجوا ليبلغوا صدقاتهم بأنفسهم وعَليهم السلاح، وأن الوليد بلغه أنهم خرجوا إليه بتلك الحالة وهي حالة غير مألوفة في تلقي المصدقين وحدثته نفسه أنهم يريدون قتله، أو لما رآهم مقبلين كذلك على اختلاف الروايات خاف أن يكونوا أرادوا قتله إذ كانت بينه وبينهم شحناء من زمن الجاهلية فولّى راجعاً إلى المدينة. هذا ما جاء في روايات أربع متفقة في صفة خروجهم إليه مع اختلافها في بيان الباعث لهم على ذلك الخروج وفي أن الوليد أُعلم بخروجهم إليه أو رآهم أو استشعرت نفسه خوفاً وأن الوليد جاء إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقال: إن بني المصطلق أرادوا قتلي وأنهم منعوا الزكاة فغضب رسول الله صلى الله عليه وسلم وهمّ أن يبعث إليهم خالدَ بن الوليد لينظر في أمرهم، وفي رواية أنه بعث خالداً وأمره بأن لا يغزوهم حتى يستثبت أمرهم وأن خالداً لما بلغ ديار القوم بعث عيناً له ينظر حالهم فأخبره أنهم يقيمون الأذان والصلاة فأخبرهم بما بلغ رسولَ الله صلى الله عليه وسلم عنهم وقبض زكاتهم وقفل راجعاً. وفي رواية أخرى أنهم ظنوا من رجوع الوليد أن يُظن بهم منع الصدقات فجاؤوا النبي صلى الله عليه وسلم قبل أن يخرج خالد إليهم متبرئين من منع الزكاة ونية الفتك بالوليد بن عقبة. وفي رواية أنهم لما وصلوا إلى المدينة وجدوا الجيش خارجاً إلى غزوهم. فهذا تلخيص هذه الروايات وهي بأسانيد ليس منها شيء في «الصحيح». وقد روي أن سبب نزول هذه الآية قضيتان أخريان، وهذا أشهر. ولنشتغل الآن ببيان وجه المناسبة لموقع هذه الآية عقب التي قبلها فإن الانتقال منها إلى هذه يقتضي مناسبة بينهما، فالقصتان متشابهتان إذ كان وفد بني تميم النازلةُ فيهم الآية السابقة جاؤوا معتذرين عن ردهم ساعي رسول الله صلى الله عليه وسلم لقبض صدقات بني كعب بن العنبر من تميم كما تقدم، وبنو المصطلق تبرُّؤوا من أنهم يمنعون الزكاة إلا أن هذا يُناكِده بُعد ما بين الوقتين إلا أن يكون في تعيين سنة وفد بني تميم وَهَم. وإعادة الخطاب ب {يا أيها الذين آمنوا} وفصله بدون عاطف لتخصيص هذا الغرض بالاهتمام كما علمت في قوله تعالى: {يا أيها الذين آمنوا لا ترفعوا أصواتكم فوق صوت النبي}. فالجملة مستأنفة استئنافاً ابتدائياً للمناسبة المتقدم ذكرها. ولا تعلق لهذه الآية بتشريع في قضية بني المصطلق مع الوليد بن عقبة لأنها قضية انقضت وسُويت. والفاسق: المتصف بالفسوق، وهو فعل ما يحرمه الشرع من الكبائر. وفسر هنا بالكاذب قاله ابن زيد ومقاتل وسهل بن عبد الله. وأوثر في الشرط حرف {إن} الذي الأصل فيه أن يكون للشرط المشكوك في وقوعه للتنبيه على أن شأن فعل الشرط أن يكون نادر الوقوع لا يقدم عليه المسلمون. واعلم أن ليس الآية ما يقتضي وصف الوليد بالفاسق تصريحاً ولا تلويحاً. وقد اتفق المفسرون على أن الوليد ظنّ ذلك كما في «الإصابة» عن ابن عبد البر وليس في الروايات ما يقتضي أنه تعمد الكذب. قال الفخر: «إن إطلاق لفظ الفاسق على الوليد شيء بعيد لأنه توهَّم وظن فأخطأ، والمخطئ لا يسمى فاسقاً». قلت: ولو كان الوليد فاسقاً لما ترك النبي صلى الله عليه وسلم تعنيفه واستتابته فإنه روى أنه لم يزد على قوله له «التبيّن من الله والعجلة من الشيطان»، إذ كان تعجيل الوليد الرجوع عجلة. وقد كان خروج القوم للتعرض إلى الوليد بتلك الهيئة مثار ظنِّه حقاً إذ لم يكن المعروف خروج القبائل لتلقّي السعاة. وأنا أحسب أن عملهم كان حيلة من كبرائهم على انصراف الوليد عن الدخول في حيّهم تعيُّراً منهم في نظر عامتهم من أن يدخل عدوّ لهم إلى ديارهم ويتولى قبض صدقاتهم فتُعيرهم أعداؤهم بذلك يمتعض منهم دهماؤهم ولذلك ذهبوا بصدقاتهم بأنفسهم في رواية أو جاؤوا معتذرين قبل مجيء خالد بن الوليد إليهم في رواية أخرى. ويؤيد هذا ما جاء في بعض روايات هذا الخبر أن الوليد أعلم بخروج القوم إليه، وسَمع بذلك فلعل ذلك الإعلام موعَز به إليه ليخاف فيرجع. وقد اتفق من ترجموا للوليد بن عقبة على أنه كان شجاعاً جواداً وكان ذا خلق ومروءة. واعلم أن جمهور أهل السنة على اعتبار أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم عدولاً وإن كل من رأى النبي صلى الله عليه وسلم وآمن به فهو من أصحابه. وزاد بعضهم شرط أن يروي عنه أو يلازمه ومال إليه المازري. قال في «أماليه» في أصول الفقه «ولسنا نعني بأصْحَاب النبي كل من رآه أو زاره لماماً إنما نريد أصحابه الذين لازموه وعززوه ونصروه واتبعوا النور الذي أنزل معه وأولئك هم المفلحون شهد الله لهم بالفلاح» اه. وإنما تلقف هذه الأخبار الناقمون على عثمان إذ كان من عداد مناقمهم الباطلة أنه أولى الوليد بن عقبة إمارة الكوفة فحملوا الآية على غير وجهها وألصقوا بالوليد وصف الفاسق، وحاشاه منه لتكون ولايته الإمارة باطلاً. وعلى تسليم أن تكون الآية إشارة إلى فاسق معين فلماذا لا يحمل على إرادة الذي أعلم الوليدَ بأن القوم خرجوا له ليصدّوه عن الوصول إلى ديارهم قصداً لإرجاعه. وفي بعض الروايات أن خالداً وصل إلى ديار بني المصطلق. وفي بعضها أن بني المصطلق وردوا المدينة معتذرين، واتفقت الروايات على أن بين بني المصطلق وبين الوليد بن عقبة شَحناء من عهد الجاهلية. وفي الرواية أنهم اعتذروا للتسلح بقصد إكرام ضيفهم. وفي السيرة الحلبية أنهم قالوا: خشِينا أن يبادئنا بالذي كان بيننا من شحناء. وهذه الآية أصل في الشهادة والرواية من وجوب البحث عن دخيلة من جُهل حال تقواه. وقد قال عمر بن الخطاب لا يُؤسر أحد في الإسلام بغير العدول، وهي أيضاً أصل عظيم في تصرفات ولاة الأمور وفي تعامل الناس بعضهم مع بعض من عدم الإصغاء إلى كل ما يروى ويخبر به. والخطاب ب {يا أيها الذين آمنوا} مراد به النبي صلى الله عليه وسلم ومن معه ويشمل الوليد بن عقبة إذ صدق من أخبره بأن بني المصطلق يريد له سوءاً ومن يأتي من حكام المؤمنين وأمرائهم لأن المقصود منه تشريع تعديل من لا يعرف بالصدق والعدالة. ومجيء حرف {إن} في هذا الشرط يومئ إلى أنه مما ينبغي أن لا يقع إلا نادراً. والتبين: قوة الإبانة وهو متعد إلى مفعول بمعنى أبان، أي تأملوا وأبينوا. والمفعول محذوف دل عليه قوله بنبإ أي تبينوا ما جاء به وإبانة كل شيء بحسبها. والأمر بالتبيّن أصل عظيم في وجوب التثبت في القضاء وأن لا يتتبع الحاكم القيل والقال ولا ينصاع إلى الجولان في الخواطر من الظنون والأوهام. ومعنى {فتبينوا} تبينوا الحق، أي من غير جهة ذلك الفاسق. فخبر الفاسق يكون داعياً إلى التتبع والتثبت يصلح لأن يكون مستنداً للحكم بحال من الأحوال وقد قال عمر بن الخطاب «لا يؤسر أحد في الإسلام بغير العدول». وإنما كان الفاسق معرَّضاً خبره للريبة والاختلاق لأن الفاسق ضعيف الوازع الديني في نفسه، وضعف الوازع يجرئه على الاستخفاف بالمحظور وبما يخبر به في شهادة أو خَبَر يترتب عليهما إضرار بالغير أو بالصالح العام ويقوي جُرأته على ذلك دوماً إذا لم يتب ويندم على ما صدر منه ويقلع عن مثله. والإشراك أشد في ذلك الاجتراء لقلة مراعاة الوازع في أصول الإشراك. وتنكير {فاسق}، و{نَبإ}، في سياق الشرط يفيد العموم في الفساق بأي فسق اتصفوا، وفي الأنباء كيف كانت، كأنه قيل: أيّ فاسق جاءكم بأيّ نبَإ فتوقفوا فيه وتطلبوا بيان الأمر وانكشافه. وقرأ الجمهور {فتبينوا} بفوقية فموحدة فتحتية فنون من التبيّن، وقرأ حمزة والكسائي وخلَف فتثبتوا بفوقية فمُثلثَة فموحدة ففوقية من التثبت. والتبيّن: تطلب البيان وهو ظهور الأمر، والتثبت التحري وتطلب الثبات وهو الصدق. ومآل القراءتين واحد وإن اختلف معناهما. وعن النبي صلى الله عليه وسلم «التثبّتُ من الله والعجلة من الشيطان» وموقع {أن تصيبوا قوماً بجهالة فتصبحوا} الخ نصباً على نزع الخافض وهو لام التعليل محذوفة. ويجوز كونه منصوباً على المفعول لأجله. والمعلل باللام المحذوفة أو المقدرة هو التثبت، فمعنى تعليله بإصابة يقع إثرها الندم هو التثبت. فمعنى تعليله بإصابة يقع آخرها الندم أن الإصابة علة تحمل على التثبت للتفادي منها فلذلك كان معنى الكلام على انتفاء حصول هذه الإضافة لأن العلة إذا صلحت لإثبات الكف عن فعل تصلح للإتيان بضده لتلازم الضد. وتقدم نظير هذا التعليل في قوله: {أن تحبط أعمالكم} [الحجرات: 2] في هذه السورة. وهذا التحذير من جراء قبول خبر الكاذب يدل على تحذير من يخطر له اختلاق خبر مما يترتب على خبره الكاذب من إصَابة الناس. وهذا بدلالة فحوى الخطاب. والجهالة: تطلق بمعنى ضد العلم، وتطلق بمعنى ضد الحِلم مثل قولهم: جَهْل كجهل السيف، فإن كان الأول، فالباء للملابسة وهو ظرف مستقر في موضع الحال، أي متلبسين أنتم بعدم العلم بالواقع لتصديقكم الكاذب، ومتعلق {تصيبوا} على هذا الوجه مَحذوف دل عليه السياق سابقاً ولاحقاً، أي أن تصيبوهم بضرّ، وأكثر إطلاق الإصابة على إيصال الضرّ وعلى الإطلاق الثاني الباء للتعدية، أي أن تصيبوا قوماً بفعل من أثر الجهالة، أي بفعل من الشدة والإضرار. ومعنى {فتصبحوا} فتصيروا لأن بعض أخوات (كان) تستعمل بمعنى الصيرورة. والندم: الأسف على فعل صدر. والمراد به هنا الندم الديني، أي الندم على التورط في الذنب للتساهل وترك تطلب وجوه الحق. وهذا الخطاب الذي اشتمل عليه قوله: {يا أيها الذين آمنوا إن جاءكم فاسق بنبأ فتبينوا} موجه ابتداء للمؤمنين المخبَرين بفتح الباء كل بحسب أثره بما يبلغ إليه من الأخبار على اختلاف أغراض المخبِرين بكسر الباء. ولكنّ هذا الخطاب لا يترك المخبِرين بكسر الباء بمعزل عن المطالبة بهذا التبيّن فيما يتحملونه من الأخبار وبتوخّي سوء العاقبة فيما يختلقونه من المختلقات ولكن هذا تبيّن وتثبت يخالف تبيُّن الآخر وتثبته، فهذا تثبت من المتلقي بالتمحيص لما يتلقاه من حكاية أو يطرق سمعه من كلام والآخر تمحيص وتمييز لحال المخبر. واعلم أن هذه الآية تتخرج منها أربع مسائل من الفقه وأصوله: المسألة الأولى: وجوب البحث عن عدالة من كان مجهول الحال في قبول الشهادة أو الرواية عند القاضي وعند الرواة. وهذا صريح الآية وقد أشرنا إليه آنفاً. المسألة الثانية: أنها دالة على قبول خبر الواحد الذي انتفت عنه تهمة الكذب في شهادته أو روايته وهو الموسوم بالعدالة، وهذا من مدلول مفهوم الشرط في قوله: {إن جاءكم فاسق بنبأ فتبينوا} وهي مسألة أصولية في العمل بخبر الواحد. المسألة الثالثة: قيل إن الآية تدل على أن الأصل في المجهول عدم العدالة، أي عدم ظن عدالته فيجب الكشف عن مجهول الحال فلا يعمل بشهادته ولا بروايته حتى يبحث عنه وتثبت عدالته. وهذا قول جمهور الفقهاء والمحدثين وهو قول مالك. وقال بعضهم: الأصل في الناس العدالة وينسب إلى أبي حنيفة فيقبل عنده مجهول الباطن ويعبر عنه بمستور الحال. أما المجهول باطنُه وظاهره معاً فحكي الاتفاق على عدم قبول خبره، وكأنهم نظروا إلى معنى كلمة الأصل العقلي دون الشرعي، وقد قيل: إن عمر بن الخطاب كان قال: «المسلمون عدول بعضهم عن بعض» وأنه لما بلغه ظهور شهادة الزور رَجع فقال: «لا يؤسر أحد في الإسلام بغير العدول». ويستثنى من هذا أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم فإن الأصل أنهم عدول حتى يثبت خلاف ذلك بوجه لا خلاف فيه في الدين ولا يختلف فيه اجتهاد المجتهدين. وإنما تفيد الآية هذا الأصل إذا حُمل معنى الفاسق على ما يشمل المتهم بالفسق. المسألة الرابعة: دل قوله: {فتصبحوا على ما فعلتم نادمين} أنه تحذير من الوقوع فيما يوجب الندم شرعاً، أي ما يوجب التوبة من تلك الإصابة، فكان هذا كناية عن الإثم في تلك الإصابة فحُذر ولاة الأمور من أن يصيبوا أحداً بضر أو عقاب أو حد أو غرم دون تبيّن وتحقق توجه ما يوجب تسليط تلك الإصابة عليه بوجه يوجب اليقين أو غلبة الظن وما دون ذلك فهو تقصير يؤاخذ عليه، وله مراتب بينها العلماء في حكم خطها القاضي وصِفةِ المخطئ وما ينقض من أحكامه. وتقديم المجرور على متعلَّقه في قوله: {على ما فعلتم نادمين} للاهتمام بذلك الفعل، وهو الإصابة بدون تثبت والتنبيه على خطر أمره.
{وَاعْلَمُوا أَنَّ فِيكُمْ رَسُولَ اللَّهِ لَوْ يُطِيعُكُمْ فِي كَثِيرٍ مِنَ الْأَمْرِ لَعَنِتُّمْ وَلَكِنَّ اللَّهَ حَبَّبَ إِلَيْكُمُ الْإِيمَانَ وَزَيَّنَهُ فِي قُلُوبِكُمْ وَكَرَّهَ إِلَيْكُمُ الْكُفْرَ وَالْفُسُوقَ وَالْعِصْيَانَ أُولَئِكَ هُمُ الرَّاشِدُونَ (7) فَضْلًا مِنَ اللَّهِ وَنِعْمَةً وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ (8)} {نادمين * واعلموا أَنَّ فِيكُمْ رَسُولَ الله لَوْ يُطِيعُكُمْ فِى كَثِيرٍ مِّنَ الامر لَعَنِتُّمْ ولكن الله حَبَّبَ إِلَيْكُمُ الايمان}. عطف على جملة {إن جاءكم فاسق بنبأ} [الحجرات: 6] عطفَ تشريع على تشريع وليس مضمونها تكملة لمضمون جملة {إن جاءكم فاسق} الخ بل هي جملة مستقلة. وابتداء الجملة ب {اعلموا} للاهتمام، وقد تقدم في قوله تعالى: {واعلموا أن الله يعلم ما في أنفسكم فاحذروه} في سورة البقرة (235). وقوله: {واعلموا أنما غنمتم من شيء} في الأنفال (41). وقوله: أن فيكم رسول اللَّه} إن خبر مستعمل في الإيقاظ والتحذير على وجه الكِنَاية. فإن كون رسول الله صلى الله عليه وسلم بين ظهرانيهم أمر معلوم لا يخبر عنه. فالمقصود تعليم المسلمين باتباع ما شرع لهم رسول الله صلى الله عليه وسلم من الأحكام ولو كانت غير موافقة لرغباتهم. وجملة {لو يطيعكم في كثير من الأمر} الخ يجوز أن تكون استئنافاً ابتدائياً. فضميرا الجمع في قوله: {يطيعكم} وقوله: {لعنتم} عائدان إلى الذين آمنوا على توزيع الفعل على الأفراد فالمطاع بَعض الذين آمنوا وهم الذين يبتغون أن يعمَل الرسولُ صلى الله عليه وسلم بما يطلبون منه، والعانِت بعض آخر وهم جمهور المؤمنين الذين يجري عليهم قضاء النبي صلى الله عليه وسلم بحسب رغبة غيرهم. ويجوز أن تكون جملة {لو يطيعكم} الخ في موضع الحال من ضمير {فيكم} لأن مضمون الجملة يتعلق بأحوال المخاطبين، من جهة أن مضمون جواب {لو} عَنَتٌ يحصل للمخاطبين. ومآل الاعتبارين في موقع الجملة واحد وانتظام الكلام على كلا التقديرين غير منثلم. والطاعة: عملُ أحد يُؤمَر به وما يُنهى عنه وما يشار به عليه، أي لو أطاعكم فيما ترغبون. و{الأمر} هنا بمعنى الحادث والقضية النازلة. والتعريف في الأمر تعريف الجنس شامل لجميع الأمور ولذلك جيء معه بلفظ {كثير من} أي في أحداث كثيرة مما لكم رغبة في تحصيل شيء منها فيه مخالفة لما شرعه. وهذا احتراز عن طاعته إياهم في بعض الأمر مما هو غير شؤون التشريع كما أطاعهم في نزول الجيش يوم بدر على جهة يستأثِرون فيها بماء بدر. والعنت: اختلال الأمر في الحاضر أو في العاقبة. وصيغة المضارع في قوله: {لو يطيعكم} مستعملة في الماضي لأن حرف {لو} يفيد تعليق الشرط في الماضي، وإنما عدل إلى صيغة المضارع لأن المضارع صالح للدلالة على الاستمرار، أي لو أطاعكم في قضية معينة ولو أطاعكم كلما رغبتم منه أو أشرتم عليه لعنتُّم لأن بعض ما يطلبونه مضر بالغير أو بالراغب نفسه فإنه قد يحب عاجِل النفع العائدَ عليه بالضر. وتقديم خبر (أنَّ) على اسمها في قوله: {أن فيكم رسولَ الله} للاهتمام بهذا الكون فيهم وتنبيهاً على أن واجبهم الاغتباط به والإخلاص له لأن كونه فيهم شرف عظيم لجماعتهم وصلاح لهم. والعَنت: المشقة، أي لأصاب الساعين في أن يعمل النبي صلى الله عليه وسلم بما يرغبون العنتُ. وهو الإثم إذا استغفلوا النبي صلى الله عليه وسلم ولأصاب غيرهم العنت بمعنى المشقة وهي ما يلحقهم من جريان أمر النبي صلى الله عليه وسلم على ما يلائم الواقع فيضر ببقية الناس وقد يعود بالضر على الكاذب المتشفي برغبته تارة فيلحق عنت من كذب غيره تارة أخرى. {لَعَنِتُّمْ ولكن الله حَبَّبَ إِلَيْكُمُ الايمان وَزَيَّنَهُ فِى قُلُوبِكُمْ وَكَرَّهَ إِلَيْكُمُ الكفر والفسوق والعصيان أولئك هُمُ} {الراشدون * فَضْلاً مِّنَ الله وَنِعْمَةً والله عَلِيمٌ حَكِيمٌ}. الاستدراك المستفاد من {لكنَّ} ناشئ عن قوله: {لو يطيعكم في كثير من الأمر لعنتم} لأنه اقتضى أن لبعضهم رغبة في أن يطيعهم الرسول صلى الله عليه وسلم فيما يرغبون أن يفعله مما يبتغون مما يخالونه صالحاً بهم في أشياء كثيرة تعرِض لهم. والمعنى: ولكن الله لا يأمرُ رسوله إلا بما فيه صلاح العاقبة وإن لم يصادف رغباتكم العاجلة وذلك فيما شرعه الله من الأحكام، فالإيمان هنا مراد منه أحكام الإسلام وليس مراداً منه الاعتقاد، فإن اسم الإيمان واسم الإسلام يتواردان، أي حبب إليكم الإيمان الذي هو الدين الذي جاء به الرسول صلى الله عليه وسلم وهذا تحريض على التسليم لما يأمر به الرسول صلى الله عليه وسلم وهو في معنى قوله تعالى: {حتى يُحَكِّموك فيما شجر بينهم ثم لا يجدوا في أنفسهم حرجاً مما قضيت ويسلموا تسليماً} [النساء: 65]، ولذا فكونه حبّب إليهم الإيمان إدماج وإيجاز. والتقدير: ولكن الله شرع لكم الإسلام وحببه إليكم أي دعاكم إلى حبه والرضى به فامتثلتم. وفي قوله: {وكره إليكم الكفر والفسوق والعصيان} تعريض بأن الذين لا يطيعون الرسول صلى الله عليه وسلم فيهم بقية من الكفر والفسوق، قال تعالى: {وإذا دُعوا إلى الله ورسوله ليحكم بينهم إذا فريق منهم معرضون إلى قوله: {هم الظالمون} [النور: 48 50]. والمقصود من هذا أن يتركوا ما ليس من أحكام الإيمان فهو من قبيل قوله {بئس الاسم الفسوق بعد الإيمان} [الحجرات: 11] تحذيراً لهم من الحياد عن مَهْيَععِ الإيمان وتجنيباً لهم ما هو من شأن أهل الكفر. فالخبر في قوله: {حبب إليكم الإيمان} إلى قوله: {والعصيان} مستعمل في الإلهاب وتحريك الهِمم لمراعاة محبة الإيمان وكراهة الكفر والفسوق والعصيان، أي إن كنتم أحببتم الإيمان وكرهتم الكفر والفسوق والعصين فلا ترغبوا في حصول ما ترغبونه إذا كان الدين يصد عنه وكان الفسوق والعصيان يدعو إليه. [وفي هذا إشارة إلى أن الاندفاع إلى تحصيل المرغوب من الهوى دون تمييز بين ما يرضي الله وما لا يرضيه أثر من آثار الجاهلية مِن آثار الكفر والفسوق والعصيان. وذكر اسم الله في صدر جملة الاستدراك دون ضمير المتكلم لما يشعر به اسم الجلالة من المهابة والروعة. وما يقتضيه من واجب اقتبال ما حَبّب إليه ونبذِ ما كَرَّه إليه. وعدي فعلاً {حبب} و{كَرَّه} بحرف (إلى) لتضمينهما معنى بَلَّغَ، أي بلغ إليكم حب الإيمان وكُره الكفر. ولم يعدّ فعل {وزينه} بحرف (إلى) مثل فعلي {حبّب} و{كرّه}، للإيماء إلى أنه لما رغّبهم في الإيمان وكرههم الكفر امتثلوا فأحبّوا الإيمان وزان في قلوبهم. والتزيين: جعل الشيء زَينا، أي حسناً قال عمر بن أبي ربيعة: أجمعتْ خُلتي مع الفجر بَينا *** جَلل الله ذلك الوجه زَيْنا وجملة {أولئك هم الراشدون} معترضة للمدح. والإشارة ب {أولئك} إلى ضمير المخاطبين في قوله: {إليكم} مرتين وفي قوله: {قلوبكم} أي الذين أحبّوا الإيمان وتزينت به قلوبهم، وكَرِهُوا الكفر والفسوقَ والعصيان هم الراشدون، أي هم المستقيمون على طريق الحق. وأفاد ضمير الفصللِ القصرَ وهو قصر إفراد إشارة إلى أن بينهم فريقا ليسوا براشدين وهم الذين تلبسوا بالفسق حين تلبسهم به فإن أقلعوا عنه التحقوا بالراشدين. وانتصب {فضلاً من اللَّه ونعمة} على المفعول المطلق المبين للنوع من أفعال {حَبَّب} {وزيَّن} {وكرَّه} لأن ذلك التحبيب والتزيّين والتّكريه من نوع الفضل والنعمة. وجملة {واللَّه عليم حكيم} تذييل لجملة {واعلموا أن فيكم رسول الله} إلى آخرها إشارة إلى أن ما ذكر فيها من آثار علم الله وحكمته.. والواو اعتراضية.
{وَإِنْ طَائِفَتَانِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ اقْتَتَلُوا فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُمَا فَإِنْ بَغَتْ إِحْدَاهُمَا عَلَى الْأُخْرَى فَقَاتِلُوا الَّتِي تَبْغِي حَتَّى تَفِيءَ إِلَى أَمْرِ اللَّهِ فَإِنْ فَاءَتْ فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُمَا بِالْعَدْلِ وَأَقْسِطُوا إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ (9)} لما جرى قوله: {أن تصيبوا قوماً بجهالة} [الحجرات: 6] الآية كان مما يصدق عليه إصابة قوم أن تقع الإصابة بين طائفتين من المؤمنين لأن من الأخبار الكاذبة أخبار النميمة بين القبائل وخطرها أكبر مما يجري بين الأفراد والتبين فيها أعسر، وقد لا يحصل التبيّن إلا بعد أن تستعر نار الفتنة ولا تجدي الندامة. وفي «الصحيحين» عن أنس بن مالك: أن الآية نزلت في قصة مرور رسول الله صلى الله عليه وسلم على مجلس فيه عبد الله بنُ أبيّ بنُ سلول ورسول الله صلى الله عليه وسلم على حمار فوقف رسول الله صلى الله عليه وسلم وبال الحمار، فقال عبد الله بن أُبَيّ: خلّ سبيل حمارك فقد آذانا نتنه. فقال له عبد الله بن رواحة: والله إن بول حماره لأطيَبُ من مسكك فاستَبَّا وتجالدا وجاء قوماهما الأوس والخزرج، فتجالدوا بالنعال والسعف فرجع إليهم رسول الله فأصلح بينهم... فنزلت هذه الآية. وفي «الصحيحين» عن أسامة بن زيد: وليس فيه أن الآية نزلت في تلك الحادثة. ويناكد هذا أن تلك الوقعة كانت في أول أيام قدوم رسول الله صلى الله عليه وسلم المدينة. وهذه السورة نزلت سنة تسع من الهجرة وأن أنس بن مالك لم يجزم بنزولها في ذلك لقوله: فبلغنا أن نزلت فيهم {وإنْ طائفتان من المؤمنين اقتتلوا فأصلحوا بينهما}. اللهم أن تكون هذه الآية ألحقت بهذه السورة بعد نزول الآية بمدة طويلة. وعن قتاده والسدي: أنها نزلت في فتنة بين الأوس والخزرج بسبب خصومة بين رجل وامرأته أحدهما من الأوس والآخر من الخزرج انتصر لكل منهما قومه حتى تدافعوا وتناول بعضهم بعضاً بالأيدي والنعال والعصيّ فنزلت الآية فجاء النبي صلى الله عليه وسلم فأصلح بينهما وهذا أظهر من الرواية الأولى فكانت حكماً عاماً نزل في سبب خاص. و {إنْ} حرف شرط يُخلّص الماضي للاستقبال فيكون في قوة المضارع وارتفع {طائفتان} بفعل مقدر يفسره قوله: {اقتتلوا} للاهتمام بالفاعل. وإنما عدل عن المضارع بعد كونه الأليق بالشرط لأنه لما أريد تقديم الفاعل على فعله للاهتمام بالمسند إليه جعل الفعل ماضياً على طريقة الكلام الفصيح في مثله مما أولِيَت فيه {إنْ} الشرطية الاسم نحو {وإن أحد من المشركين استجارك} [التوبة: 6]، {وإن امرأة خافت من بعلها نشوزاً} [النساء: 128]. قال الرضي «وحق الفعل الذي يكون بعد الاسم الذي يلي (إنْ) أن يكون ماضياً وقد يكون مضارعاً على الشذوذ وإنما ضعف مجيء المضارع لحصول الفصل بين الجازم وبين معموله». ويعود ضمير {اقتتلوا} على {طائفتان} باعتبار المعنى لأن طائفة ذات جمع، والطائفة الجماعة. وتقدم عند قوله تعالى: {فلتقم طائفة منهم معك} في سورة النساء (102). والوجه أن يكون فعل اقتتلوا} مستعملاً في إرادة الوقوع مثل {يا أيها الذين آمنوا إذا قمتم إلى الصلاة} [المائدة: 6] ومثل {والذين يظّاهرون من نسائهم ثم يَعُودون لما قالوا} [المجادلة: 3]، أي يريدون العود لأن الأمر بالإصلاح بينهما واجب قبل الشروع في الاقتتال وذلك عند ظهور بوادره وهو أولى من انتظار وقوع الاقتتال ليمكن تدارك الخطب قبل وقوعه على معنى قوله تعالى: {وإن امرأة خافت من بعلها نشوزاً أو إعراضاً فلا جناح عليهما أن يصَّلحا بينهما صلحاً} [النساء: 128]. وبذلك يظهر وجه تفريع قوله: {فإن بغت إحداهما على الأخرى} على جملة {اقتتلوا}، أي فإن ابتدأتْ إحدى الطائفتين قتال الأخرى ولم تنصع إلى الإصلاح فقاتلوا الباغية. والبغي: الظلم والاعتداء على حق الغير، وهو هنا مستعمل في معناه اللغوي وهو غير معناه الفقهي ف {التي تبغي} هي الطائفة الظالمة الخارجة عن الحق وإن لم تقاتل لأن بغيها يحمل الطائفة المبغِي عليها أن تدافع عن حقها. وإنما جعل حكم قتال الباغية أن تكون طائفة لأن الجماعة يعسر الأخذ على أيدي ظلمهم بأفراد من الناس وأعواننِ الشرطة فتعين أن يكون كفهم عن البغي بالجيش والسلاح. وهذا في التقاتل بين الجماعات والقبائل، فأما خروج فئة عن جماعة المسلمين فهو أشد وليس هو مورد هذه الآية ولكنها أصل له في التشريع. وقد بغى أهل الردة على جماعة المسلمين بغياً بغير قتال فقاتلهم أبو بكر رضي الله عنه، وبغى بغاة أهل مصر على عثمان رضي الله عنه فكانوا بغاةً على جماعة المؤمنين، فأبى عثمان قتالهم وكره أن يكون سبباً في إراقة دماء المسلمين اجتهاداً منه فوجب على المسلمين طاعته لأن وليُّ الأمر ولم يَنفُوا عن الثوار حكم البغي. ويتحقق وصف البغي بإخبار أهل العلم أن الفئة بغت على الأخرى أو بحكم الخليفة العالم العدل، وبالخروج عن طاعة الخليفة وعن الجماعة بالسيف إذا أمر بغير ظلم ولا جور ولم تُخش من عصيانه فتنةٌ لأن ضر الفتنة أشد من شدّ الجور في غير إضاعة المصالح العامة من مصالح المسلمين، وذلك لأن الخروج عن طاعة الخليفة بغي على الجماعة الذين مع الخليفة. وقد كان تحقيق معنى البغي وصُورهُ غيرَ مضبوط في صدر الإسلام وإنما ضبطه العلماء بعد وقعة الجمل ولم تطل ثم بعد وقعة صفين، وقد كان القتال فيها بين فئتين ولم يكن الخارجون عن علي رضي الله عنه من الذين بايعوه بالخلافة، بل كانوا شرطوا لمبايعتهم إياه أخذ القَوَد من قتلة عثمان منهم، فكان اقتناع أصحاب معاوية مجالاً للاجتهاد بينهم وقد دارت بينهم كتب فيها حجج الفريقين ولا يعلم الثابت منها والمكذوب إذ كان المؤرخون أصحاب أهواء مختلفة. وقال ابن العربي: كان طلحة والزبير يريان البداءة بقتل قتلة عثمان أولى، إلا أن العلماء حققوا بعد ذلك أن البغي في جانب أصحاب معاوية لأن البيعة بالخلافة لا تقبل التقييد بشرط. وقد اعترف الجميع بأن معاوية وأصحابه كانوا مدافعين عن نظر اجتهادي مخطئ، وكان الواجب يقضى على جماعة من المسلمين الدعاء إلى الصلح بين الفريقين حسب أمر القرآن وجوب الكفاية فقد قيل: إن ذلك وقع التداعي إليه ولم يتم لانتقاض الحَرورية على أمر التحكيم فقالوا: لا حكم إلا لله ولا نحكم الرجال. وقيل: كيدت مكيدة بين الحَكَمين، والأخبار في ذلك مضطربة على اختلاف المتصدين لحكاية القضية من المؤرخين أصحاب الأهواء. والله أعلم بالضمائر. وسئل الحسن البصري عن القتال بين الصحابة فقال: شهد أصحاب محمد وغبنا وعلموا وجهلنا. وقال المُحاسبي: تَعلّم أن القوم كانوا أعلم بما دخلوا فيه مِنّا. والأمر في قوله: {فقاتلوا التي تبغي} للوجوب، لأن هذا حُكم بين الخصمين والقضاء بالحق واجب لأنه لحفظ حق المحق، ولأن ترك قتال الباغية يجرّ إلى استرسالها في البغي وإضاعة حقوق المبغي عليها في الأنفس والأحوال والأغراض والله لا يحب الفساد، ولأن ذلك يجرئ غيرها على أن تأتي مثل صَنيعها فمقاتلها زجر لغيرها. وهو وجوب كفاية ويتعين بتعيين الإمام جيشاً يوجهه لقتالها إذ لا يجوز أن يلي قتال البغاة إلا الأيمة والخلفاء. فإذا اختلّ أمر الإمامة فليتولَّ قتال البغاة السوادُ الأعظم من الأمة وعلماؤها. فهذا الوجوب مطلق في الأحوال تقيده الأدلة الدالة على عدم المصير إليه إذا علم أن قتالها يجرّ إلى فتنة أشد من بغيها. وقد تلتبس الباغية من الطائفتين المتقاتلتين فإن أسباب التقاتل قد تتولد من أمور لا يُؤْبَهُ بها في أول الأمر ثم تثور الثائرة ويتجالد الفريقان فلا يضبط أمر الباغي منهما، فالإصلاح بينهما يزيل اللبس فإن امتنعت إحداهما تعين البغي في جانبها لأن للإمام والقاضي أن يجبر على الصلح إذا خشي الفتنة ورأى بوارقها، وذلك بعد أن تُبيَّن لكلتا الطائفتين شبهتها إن كانت لها شبهة وَتُزال بالحجة الواضحة والبراهين القاطعة ومن يَأْب منهما فهو أعق وأظلم. وجعل الفَيْء إلى أمر الله غاية للمقاتلة، أي يستمر قتال الطائفة الباغية إلى غاية رجوعها إلى أمر الله، وأمر الله هو ما في الشريعة من العدل والكف عن الظلم، أي حتى تقلع عن بغيها، وأُتْبع مفهوم الغاية ببيان ما تُعامَل به الطائفتان بعد أن تفي الباغية بقوله: {فإن فاءت فأصلحوا بينهما بالعدل}، والباء للملابسة والمجرور حال من ضمير {اصلحوا}. والعدل: هو ما يقع التصالح عليه بالتراضي والإنصاف وأن لا يضر بإحدى الطائفتين فإن المتالف التي تلحق كلتا الطائفتين قد تتفاوت تفاوتا شديداً فتجب مراعاة التعديل. وقُيد الإصلاحُ المأمور به ثانياً بقيد أن تفيء الباغية بقيد {بالعدل} ولم يقيد الإصلاح المأمور به، وهذا القيد يقيد به أيضاً الإصلاح المأمور به أولاً لأن القيد من شأنه أن يعود إليه لاتحاد سبب المطلق والمقيد، أي يجب العدل في صورة الإصلاح فلا يضيعوا بصورة الصلح منافع عن كلا الفريقين إلا بقدر ما تقتضيه حقيقة الصلح من نزول عن بعض الحق بالمعروف. ثم أمر المسلمين بالعدل بقوله: {وأقسطوا} أمراً عاماً تذييلاً للأمر بالعدل الخاص في الصلح بين الفريقين، فشمل ذلك هذا الأمر العام أن يعدلوا في صورة ما إذا قاتلوا التي تبغي، ثم قال: {فإن فاءت فأصلحوا بينهما}. وهذا إصلاح ثان بعد الإصلاح المأمور به ابتداء. ومعناه: أن الفِئة التي خضعت للقوة وألقت السلاح تكون مكسورة الخاطر شاعرة بانتصار الفئة الأخرى عليها فأوجب على المسلمين أن يصلحوا بينهما بترغيبهما في إزالة الإحن والرجوع إلى أخُوَّة الإسلام لئلا يعود التنكر بينهما. قال أبو بكر بن العربي: ومن العدل في صلحهم أن لا يطالبوا بما جرى بينهم مدة القتال من دم ولا مال فإنه تلف على تأويل وفي طلبهم به تنفير لهم عن الصلح واستشراء في البغي وهذا أصل في المصلحة اه. ثم قال: لا ضمان عليهم في نفس ولا مال عندنا المالكية. وقال أبو حنيفة يضمنون. وللشافعي فيه قولان. فأما ما كان قائماً رُدّ بعينه وانظر هل ينطبق كلام ابن العربي على نوعي الباغية أو هو خاص بالباغية على الخليفة وهو الأظهر. فأما حكم تصرف الجيش المقاتل للبغاة فكأحوال الجهاد إلا أنه لا يقتل أسيرهم ولا يتَّبع مدبرهم ولا يذفّف على جريحهم ولا تسبى ذراريهم ولا تغنم أموالهم ولا تسترق أسراهم. وللفقهاء تفاصيل في أحوال جبر الأضرار اللاحقة بالفئة المعتدَى عليها والأضرار اللاحقة بالجماعة التي تتولى قتال البغاة فينبغي أن يؤخذ من مجموع أقوالهم ما يرى أولو الأمر المصلحة في الحمل عليها جرياً على قوله تعالى: {وأقسطوا إن الله يحب المقسطين}.
|